الانفلات الصحفي الذي تعاني منه مصر حاليا بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 يهدد بالخطر دولة الحرية والكرامة والحداثة التي يتطلع إليها كل مصري بعد نجاح تلك الثورة. وبدلا من أداء صحفي رشيد يكون عنوانا للحقيقة والعدالة أصبحنا نرى ممارسات مخالفة بفجاجة للمعايير المهنية، وضاربة عرض الحائط بالقيم ومواثيق الشرف. وبعد تهاوي المجلس الأعلى للصحافة، وقد كان منوطا به مراقبة هذا الأداء، لم تقم نقابة الصحفيين بدورها المنشود في التصدي لهذا الانفلات. هذا الانفلات "يمكن أن تُسرق فيه عقول، وتُغتال أفكار، وتُنهب ثقافة"، كما قال الدكتور سعيد إسماعيل علي. وله مظاهر ثلاثة تمثل تحديات أمام هذه الصحافة أولها العمل ب"فقه الأولويات" ضمانا لترشيد الجهد، واعتماد النظرية الإعلامية التي تنادي بإبراز: "الأكثر أهمية أولا"، على أن تكون لديها قائمة أولويات (Agenda setting) بشكل لحظي، ويومي، ودائم. لكن على العكس من ذلك، انشغلت تلك الصحافة بمعارك من مثل: الدستور أم الانتخابات أولا، وخلافات الليبراليين والإسلاميين، وأحدث "افتكاسات" وبيانات ائتلافات الثورة.. إلخ؛ مما صرف البلاد والعباد عن التركيز على القضايا المهمة التي تمثل صمام أمان لاستمرار الثورة. ومن أمثلة تلك القضايا الاهتمام بالمشاريع الكبرى لبناء الوطن، كتحسين مستويات الصحة والتعليم والخدمات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، والإنتاج الحربي، وتقديم القدوات الاجتماعية الناجحة.. إلخ. إن رغيفا يتم توفيره لمواطن خير من هذا الانشغال بأمور ثانوية لا تحسن من مستوى معيشته. وقديما قال إبن المقفع: "لا تتركن مباشرة جسيم أمرك فيعود شأنك صغيراً، ولا تلزمن نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعاً"، وهي نصيحة سحرية، ومفتاح نجاح لكل صحفي أو مؤسسة إعلامية. الخلل الثاني هو أن صحافة الثورة تجاهلت - إلا قليلا - تقديم حقائق الأمور، مكتفية بالقشرة الخارجية، و"الشغل من على السطح" فقط، دون بذل الجهد الكافي لاستبصار الخفايا والأسرار. فقد رأينا معالجات تتعامل مع الأحداث والوقائع دون ولوج للأعماق، وبعيدا عن النزول للميدان، واكتفاء بالعمل من على المكاتب، مما ينذر بطمس الحقائق، وتسطيح الأمور. هذا النزوع نحو الاستسهال، والسطحية، وعدم تقديم التفاصيل، وما يجري وراء الكواليس، أو ما يُعرف ب "الصحافة المسطحة" ينذر بارتكاب أخطاء مهنية، ليس أقلها التناقض والارتباك في بناء القصص الصحفية ذاتها. وكمثال: اهتمام الصحافة مؤخرا بالقبض على "خنوقة.. أخطر بلطجى فى القاهرة"، وتوسعها في بسط تاريخه الإجرامي ثم انتحاره، دون أن تأتي على ذكر أن أجهزة الأمن احتجزت زوجته وأمه بقسم الشرطة، ليقوم بتسليم نفسه، وهي معلومة نبه إليها الكاتب الصحفي فهمي هويدي. وهي خطيرة لأنها تعني أن جهاز الشرطة المصري ما زال على ما كان عليه قبل الثورة، من استخدام أسلوب احتجاز الرهائن، خارج إطار القانون، كأداة لإجبار المشتبه فيهم على تسليم أنفسهم. و"يعني انتهاك حرمة أى إنسان فى مصر أو إهدار كرامته أن الثورة لم تحقق أهدافها، وأننا يجب أن نُستنفر للدفاع عنها"، بحسب تعليق هويدي. أما التحدي الثالث أمام صحافة الثورة فهو رغبتها في جذب القارئ لمادتها، وحسم المنافسة الصحفية لصالحها، ما جعلها تجنح إلى الإثارة الزاعقة خاصة في العناوين، بعيدا عن القواعد الموضوعية، والأسس المهنية، لأجل إشباع شبق البحث عن سبق أو انفراد، حتى لو كان على حساب الحقيقة، أو الدقة، أو تم تلوينه أو تسييسه أو ابتساره بشكل مخل. خطورة ذلك أنه "قد يؤدي الى حدوث تشويش على فكر المواطنين، وإحداث نتائج غير سوية، من الناحية النفسية، لاسيما فيما يتعلق بالأمل"، وفق تصريح للدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي. ومثاله مانشرت صحيفة الأهرام في 25 مارس/ آذار الماضي عن تطبيق حد قطع الأذن من قبل بعض السلفيين بحق أحد الأقبط بصعيد مصر، وهو ما ثبت عدم دقته بعد ذلك. وكذلك ما نشرته صحيفة "المصري اليوم" يوم 14يونيو/حزيران الماضي من أن الضابط الإسرائيلى إيلان تشايم جرابيل المقبوض عليه بتهمة التجسس اتصل بقيادات الإخوان المسلمين.. دون أن يذكر متن الخبر ذلك على الإطلاق. وحتى في تغطية محاكمة أركان النظام السابق المقدمين للعدالة.. خالفت صحف مصرية مبدأ "المتهم بريء حتي تثبت إدانته"، وكالت الشتائم للمتهمين بشكل غير لائق مهنيا أو أخلاقيا. فعلت ذلك بشكل فج جريدة الأخبار بعددها الصادر 4 أغسطس/آب الماضي. والخلاصة أن صحافة الثورة باتت مُحتاجة إلى خارطة طريق، ووثيقة مبادئ ومعايير هادية؛ تحكم سلوكها، وتضبط أداءها، وتطبق بمقتضاها ما تنادي به من مُثُل وقيم. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ". (الصف: 2 و3). * [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد