نزيف البورصات الدامي الذي أطاح بتريليونات الدولارات من قيم الأسهم في أسواق الأسهم العالمية الإسبوع الماضي, وهرب بسببه المتعاملون في أسواق النقد من الدولار إلي الين والفرنك السويسري ومن الأصول المالية إلي الذهب. وتجمدت بفعل انعكاساته حركة الإقراض بين البنوك لا يمكن نسبته إلي عقلية القطيع التي تقود البورصات إلي الهاوية, أو إلي لعنة شهر أغسطس حين يقضي السياسيون إجازاتهم الصيفية فتلعب أصابع خفية تهوي التقلبات الحادة صعودا و هبوطا وسط تعاملات محدودة التأثير. فهبوط مؤشرات الأسهم بنسب تجاوزت15% له مبررات قوية تجسدها الفجوة العميقة بين الحقائق الاقتصادية ورد الفعل السياسي الهزيل ازاءها مما دفع المتعاملين إلي التخلص من كل سهم تشتم رائحة الخطر منه لتخرج سندات الخزانة الأمريكية الأكثر ضمانا مثل الشعرة من العجين رغم الزلزال القوي الذي أحدثه قرار وكالة ستاندرد أند بورز بخفض التصنيف الائتماني للدين العام الأمريكي من الدرجة القصويAAA إليAA+. المتعاملون ركزوا علي الحقائق الاقتصادية التي تشير إلي النمو الضعيف للاقتصاد الأمريكي في العام الماضي والربعين الأول والثاني من العام الحالي( أقل من1%) مع تجاوز معدل البطالة حاجز ال9% مما يعني أن أكبر اقتصاد في العالم متجه لا محالة إلي ركود مزدوج, وأن اقتصاد منطقة اليورو دخل في نفق مظلم من الأزمات المتتالية وخطط التقشف الحادة التي ستدخله أيضا في ركود لن ينقذه منها الأداء القوي للاقتصاد الألماني وحده. أما القاطرات البديلة للاقتصاد العالمي وهي الصين والهند والبرازيل فتواجه ضغوطا تضخمية تدفعها إلي رفع أسعار الفائدة مما يعوق نموها, في وقت لم تتهيأ فيه اقتصادياتها بعد للتخلص من عقدة الاعتماد علي التصدير لأسواق غربية مصابة الآن بحالة أنيميا حادة تعوقها عن رفع مستوي الطلب المحلي لمواجهة غول البطالة, فما بالك بقدرة استيعابها الواردات من الخارج. وفي وقت تتحدث فيه مجلة الايكونوميست عن خطر شتاء الركود الياباني الطويل الذي يهدد الاقتصاديات الغربية, كان طيبعيا أن تصاب أسواق المواد الأولية والطاقة وفي مقدمتها البترول بالهزال. هكذا كانت الحقائق الاقتصادية, أما رد الفعل السياسي لها فكان أشبه بمسرحية هزلية. في أمريكا تسببت أزمة رفع سقف الدين العام والمواجهة بين الجمهوريين والديمقراطيين في تعظيم المخاطر السياسية المرتبطة بالقدرة علي خفض عجز الموازنة بالتعامل مباشرة مع جذوره وهو الانفاق العسكري وبرامج الرعاية الاجتماعية والصحية وزيادة الضرائب علي الأغنياء وخفض أعبائه علي الطبقة المتوسطة حتي ينتعش الطلب وتدور عجلة الإنتاج. فما حصل عليه المحللون هو مزيد من اجراءات تقشف تعمق الركود وتحيل القضايا الرئيسية إلي لجنة قد لا تنهي أعمالها قبل الانتخابات المقبلة. وما زاد الطين بلة الهجوم الذي شنته الإدارة الأمريكية وتشكيكها في حسابات ستاندرد أند بورز ثم امتطاء الصين جوادا جامحا بتصريحات لمسئولين نقلتها وكالة شينخوا وصحيفة الشعب الصينية تطالب بالتدخل بتأديب الاقتصاد الأمريكي وإرغام قادتها علي اصلاح مشكلاته البنيوية واستبدال الدولار كعملة دولية بعملة أخري دون أن يدرك هؤلاء المسئولون أنهم يصبون الزيت علي النار, وأنهم لا يطرحون حلولا واقعية بل أن كل ما يطالبون به يلحق أولا ضررا بالغا بقيمة ما بحوزتهم من سندات الخزانة الأمريكية(1.16 تريليون دولار). علي الطرف الآخر من الأطلنطي لم يكن الحال أفضل. فقد امتدت ألسنة النيران من الطرف إلي قلب منطقة اليورو وارتفعت تكلفة الاقتراض في ايطاليا وإسبانيا بينما البنك المركزي الأوروبي يتردد في التدخل لشراء السندات السيادية الايطالية والأسبانية من الأسواق الثانوية. وتبادل جوزيه مانويل باروزو رئيس المفوضية الأوروبية والمسئولين الألمان الانتقادات علنا. فقد انتقد باروزو عدم تحرك القادة الأوروبيين بسرعة لتوفير الاعتمادات المالية الكافية واللازمة لصندوق الاستقرار المالي الأوروبي للتدخل لحماية البنوك والدول التي تواجه أزمات ديون سيادية وأرجع ذلك إلي ضعف بنيوي في عملية اتخاذ القرار الأوروبي في حين اتهمته ألمانيا بإثارة ذعر لا مبرر له بين المستثمرين. هبوط مؤشرات الأسهم في الأسواق ستكون له تداعياته السلبية علي أداء الشركات ورغبتها في الاستثمار, وعلي أموال صناديق التقاعد ورغبة المستهلكين في الشراء لندور في حلقة حلزونية. الوضع بالتأكيد ليس أسوأ مما كان عليه في عام2008, لكن الحلقة المفقودة هي الإرادة السياسية والقدرة علي الإنجاز السريع بعلاجات جذرية وليس ضمادات تؤجل الأزمات. ما يثير القلق أن أدوات السياسات النقدية والمالية اللازمة لاطفاء النيران تتقلص احتمالات اللجوء إليها وتأثيراتها يوما بعد يوم. وحين تتوقع الأسواق الأسوأ يكون ذلك بمثابة الضوء الأحمر للسياسيين للخروج من حالة الاسترخاء التي ارتكنوا إليها والعودة إلي مواقعهم لاتخاذ ما يلزم لعكس التوقعات السلبية في الأسواق.