بعد أيام وأسابيع من الصمت العربي المدوي إزاء عمليات القتل والقمع المتصاعد في وحشية وهمجية الذي تعرض ويتعرض له الشعب السوري الشقيق منذ ما يقرب من ستة أشهر.. بدأنا أخيرا نري تحركا عربيا يأتي عقب التحرك الدولي المتمثل في البيان الرئاسي الذي أصدره مجلس الأمن في الثالث من أغسطس.. فقد جاء البيان الصادر عن الملك عبدالله ملك المملكة العربية السعودية الذي دعا فيه إلي وقف آلة القتل السورية والاستماع إلي صوت العقل والحكمة, كما جاء مشفوعا بقرار الملك استدعاء سفيره في دمشق رغم ما هو معروف عن الملك عبدالله من صلات وثيقة مع الرئيس السوري ووالده الرئيس حافظ الأسد, كما جاء مشفوعا بموقف دول مجلس التعاون الخليجي وقرار عدد من هذه الدول باستدعاء سفرائها, كما كانت مصر علي لسان وزير خارجيتها الجديد قد أعربت عن قلقها.. وإن لم تتخذ خطوة استدعاء سفيرها من دمشق.. أما الأمين العام لجامعة الدول العربية فقد جاءت تصريحاته الأخيرة متسمة بالحزم.. وإن عكست شعورا بالتشاؤم من تعقيدات الموقف في سوريا.. المهم أننا أصبحنا نري موقفا عربيا آخذا في التبلور بالتوازي مع تصاعد الموقف التركي بما له من تأثير كبير معروف علي سوريا.. فلقد كانت تركيا هي التي أخرجت النظام السوري من عزلته من خلال حزمة السياسات التركية الجديدة التي اتبعتها حكومة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان إزاء سوريا في الأعوام الأخيرة. إذن فنحن أمام موقف عربي وإقليمي ودولي متطور أصبح يضيق ذرعا بسياسات القتل العمد التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه.. كل ذلك من شأنه أن يضعنا أمام لحظة فارقة في مواقف القوي العربية والإقليمية والدولية ويهدد النظام السوري بوضعه في عزلة.. ولم يعد العالم يعير اهتماما أو قبولا لمقولة أن ما يجري في سوريا إنما هو شأن داخلي لا يحق لأحد أن يتدخل فيه, في حين أن ما يجري في سوريا إنما هو في الواقع جرائم ضد الإنسانية يحق للمجتمع الدولي بل يجب عليه أن ينشغل بها ويعمل علي إيقافها وعقاب مرتكبيها وإحالتهم إلي المحكمة الجنائية الدولية.. تلك هي فحوي التطور المهم الذي وقع في مجال القانون الدولي عبر السنوات الماضية.. فقد تدخل المجتمع الدولي مساندا كفاح الشعب الإفريقي ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا.. وأقر مبدأ المسئولية الجماعية في التدخل لحماية الشعوب من جلاديها.. وقد طبق ذلك بالفعل عندما أخضع نظام ميلوسوفيتش في صربيا للقضاء الجنائي الدولي لما ارتكبه هذا النظام من جرائم ضد شعب كوسوفا.. ومع كل ذلك فإن الأوضاع في سوريا أصبحت تتطور وتسير من سييء إلي أسوأ, بحيث تجاوزت الاعتبارات والمناقشات القانونية.. وأصبحت تهدد بتطورات أكثر خطرا.. بينما لو تفجر مثلا الوضع الطائفي الدقيق الذي نعرفه جميعا.. أو فيما لو أصبح هناك استقطاب إقليمي حول سوريا.. خاصة بين تركيا وإيران.. مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية في الجولان.. فتركيا اليوم أصبحت تأخذ موقفا قويا رافضا لعمليات القمع والقتل الذي تمارسه الحكومة السورية ضد الشعب السوري بينما تقف إيران.. القوة الإقليمية الأخري.. موقفا داعما للنظام السوري.. وتمده بالسلاح.. أما الموقف العربي الذي ظل لأسابيع إن لم يكن لشهور يتسم بالسلبية فقد أصبح الآن موقفا متطورا كما سبق إيضاحه. يشير ذلك كله إلي موقف مصر.. التي لا يقل اهتمامها بسوريا عن اهتمام السعودية.. أو هكذا يجب أن يكون الحال.. فرغم أن مصر مشغولة بقضاياها الداخلية سواء علي المستوي السياسي أو الاقتصادي فإن ذلك كله لا يلغي دور مصر النابع من التزامها العربي ومن مصلحتها الاستراتيجية الإقليمية طوال العقود الماضية, كان هناك المثلث الذهبي الذي قاد العالم العربي وعبر به العديد من أزماته.. هذا المثلث الذهبي كان يتكون من مصر والسعودية وسوريا.. وإذا كانت السعودية قد أخذت الآن موقفا متقدما إزاء سوريا وأحداثها.. فإن مصر لم تكن غائبة تماما وذلك من خلال تصريحات وزير خارجيتها في غرة رمضان.. وإن كانت هذه التصريحات لم تأخذ حقها في الإعلام.. في هذه التصريحات أوضح وزير الخارجية الارتباط بين سوريا ومصر علي مستوي الأمن القومي المصري والعربي, وقد جاءت الأنباء أخيرا بأن الوزير سيقوم في أول زيارة خارجية له بزيارة تركيا.. وهناك من الإرهاصات ما يشير إلي إمكان قيام علاقات استراتيجية بين مصر وتركيا إلا أنه بغض النظر عن ذلك فإن ثمة إمكانا للقيام بتحرك مصري تركي سعودي.. لبلورة مبادرة عربية تركية مشتركة.. مبادرة يكون هدفها إيقاف حمامات الدم في سوريا والبدء في عملية سياسية تستهدف تحقيق الإصلاح الدستوري وربما أيضا نقل السلطة.. وذلك في ضوء تطورات الموقف ونضال الشعب السوري من أجل الحرية.. إنني لا أعتقد أن انشغال مصر بقضاياها الداخلية من شأنه تغييب الدور المصري القيادي.. بل أعتقد أن تأثير مصر دفاعا عن الحرية سيكون أبلغ وأكثر مصداقية الآن بالمقارنة لما كان عليه الحال قبل الثورة.. ستكون الأيام المقبلة أياما حاسمة أمام الدبلوماسية المصرية التي أدعوها إلي التخلي عن حذرها المفرط والإقدام علي ممارسة دورها الطبيعي الذي اختاره الله لها.. وبقدر ما يكون لمصر من دور عربي وإقليمي مؤثر بقدر ما تكون مصر قادرة علي الدفاع عن مصالحها الحيوية وتفادي الأخطار التي تتهددها.. سواء كان ذلك في منابع النيل.. أو في منطقة الشام.. فكلاهما منطقتان فاعلتان في منظومة الأمن القومي المصري.إن الأحداث في سوريا تطرح دورا مهما أمام الدبلوماسية المصرية.. وهو دور يمكن أن تقوم به بالشراكة مع قوة عربية هي المملكة العربية السعودية.. وقوة إقليمية هي تركيا..