عرفت هذا الامام الجليل منذ فترة الشباب, وفي فجر حياتي لطلب العلم, فعندما التحقت بكلية أصول الدين بالقاهرة, وفي أول يوم لي قابلني بعض الطلاب القدامي الذين كانوا يقومون بالأنشطة الثقافية وطلبوا مني أن أسجل خواطري عن هذه الكلية وعن الالتحاق بها وكان الدكتور عبدالحليم محمود عميد الكلية آنئذ, فقلت في خواطري: لما دخلتك ياأصول الدين.. قد زاد حبي واطمأن يقيني ورأيت فيك مشاهدا دفاقة.. بالخير من حين هناك لحين فعميدنا الورع التقي وصاحب القلب النقي رعا أصول الدين لم يأل جهدا إنه حفز النهي.. وبنوره وصلاحه يهديني يارب قد يممت وجهي شطركم.. وكفي بهذا ياأجل معين إن التصوف مذهبي ورياضتي.. وإذا مرضت فخالقي يشفيني كلية الاسلام أنت منارة.. سيما الهدي يبدو بكل جبين ضمي اليك الوافدين فإنهم.. قد شافهم لدناك ألف حنين قرآننا يرعاك حق رعاية.. ياخير حصين للصلاح حصين ومن أهم الذكريات مع الإمام الأكبر العارف بالله الدكتور عبدالحليم محمود حينما تولي عمادة الكلية أنه قام بإصلاح المناهج التعليمية وأضاف إليها.. وإلي جانب هذا عني عناية فائقة بالثقافة الاسلامية للطلاب لتأسيسهم علميا ودعويا, فقام بمشروعين فكريين مهمين: أما الأول: فاستقدم علماء الاسلام وكبار الدعاة والمفكرين ليقوموا بتعليم الطلاب وتثقيفهم في محاضرات عامة كانت تقام في قاعة الامام محمد عبده, وكنت أسهم في هذه اللقاءات بصفة مستمرة أحيانا ببعض المشاركات وأخري بإلقاء بعض القصائد الدينية.. وأما الثاني: فكان يعمل علي تأسيس البناء العلمي والفكري للطلاب, لينشأوا علي أسس قويمة ويعودهم مواجهة الجماهير والتمرس علي إلقاء المحاضرات منذ عهد طلب العلم فكان الإمام عبدالحليم محمود رحمه الله يكلف من يأنس فيه القدرة ويستطيع أن يعد محاضرة لإلقائها علي الطلاب, أي أن الطالب يقوم نيابة عن الشيخ بإلقاء المحاضرة علي زملائه ويقف منهم موقف الشيخ, ويجلس الإمام عبدالحليم رحمه الله في القاعة مستمعا لمحاضرة الطالب ويسجل ملحوظات علي المحاضرة, بجميع الإيجابيات والسلبيات, ثم بعد أن ينتهي الطالب من إلقاء المحاضرة يبدي تقويمه وملحوظاته.. وعلي هذا النحو كان حريصا بهذه التجربة المتميزة علي اكتشاف المواهب الشابة مبكرا وعلي تأسيس قاعدة من أبناء الأزهر ليكونوا في مستقبل حياتهم علماء وأساتذة ودعاة لله علي أعلي مستوي. ومن أهم ذكرياتي مع الإمام عبدالحليم محمود أنني حضرت أحد مجالسه وكان يوجد من بينهم بعض المثقفين الذين لايصدقون بخوارق العادات, وسمعته وهو يعطي بعض أمثلة ونماذج مما حدث معه هو شخصيا.. من بينها ظهور بعض شخصيات له, ومن بينها بعض أذكار وصلوات لها اثر كبير مثل صيغة الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم التي تحولت إلي نور أمام عينيه, وذلك أنه كان في حال اشتد به بعض البلاء, فأتاه بعض العلماء وأعطاه صيغة من صيغ الصلاة والسلام علي رسول الله وطلب منه أن يكثر منها في خلوه وكانت هذه الصيغة مكتوبة بحروف من الحبر فلما أكثر قراءتها وجد الحروف المكتوبة بالحبر قد تحولت إلي حروف من نور وظن أن هذا ربما كان بعض توهم أو أن في عينيه تعبا وأخذ يدلك عينيه وينظر إلي الصيغة فيري حروفها حقيقة من النور فعاد يمسح عينيه وينظر في هذه الصيغة فرأي الحروف تتلألأ نورا في الغرفة فأيقن أن فرج الله قد جاء وهذه الصيغة هي: ( اللهم صلي صلاة جلال, وسلم سلام جمال علي حضرة حبيبك سيدنا محمد واغشه اللهم بنورك كما غشيته سحابة التجليات فنظر إلي وجهك الكريم وبحقيقة الحقائق كلم مولاه العظيم الذي أعاذه من كل سوء اللهم فرج كربي كما وعدت: أممن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وعلي اله وصحبه آمين). وقد جرب البعض هذه الصيغة فلم ير نورا لحروفها ولكنه رأي دلائل الفرج لأن الناس مقامات في طريقهم إلي الله, ومنزلة كل منهم في القرب والوصول, وفضل الله سبحانه وتعالي يؤتيه من يشاء. ومن أهم الذكريات مع هذا الامام الجليل أنه كان يعمل علي أن يسهم أبناء الأزهر في معركة العاشر من رمضان وقد كنت آنئذ عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين جامعة الأزهر وكان فضيلته قد استعان بعلماء الجامعة, وعلماء الوعظ والأوقاف لتعبئة الروح المعنوية لأبناء قواتنا المسلحة, ولما التقي العلماء بأبناء الجيش وكنا في شهر رمضان وكان أبناء الجيش صائمين وقال بعض الدعاة للجنود إنكم في جو حار وفي حرب مع عدو شرس, وأري أن الفطر رخصة لكم ليكون عونا لكم في النصر علي عدوكم فما كان من بعض الجنود إلا أن أجاب قائلا: لا أريد أن أفطر إلا في الجنة إنها روح الجهاد وحب الاستشهاد وحب الوطن وكانت حرب العاشر من رمضان تشبه إلي حد كبير مواقع الإسلام السابقة الخالدة. وكان الامام عبدالحليم محمود رحمه الله تعالي قد رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم في المنام يعبر ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة, فاستبشر الإمام عبدالحليم محمود رحمه الله خيرا واستبشر بالنصر وأخبر القائد أنئذ وهو الرئيس السادات رحمه الله واقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب وسينتصر لأنه رأي الرسول صلي الله عليه وسلم يعبر ومعه قواتنا وعلماؤنا, فكانت بحق بشارة النصر لهذا اليوم العظيم. انطلق هذا الامام الجليل إلي منبر الأزهر الشريف, وهو المنبر الذي كان يلجأ إليه الأئمة في كل ملمة, وخطب المسلمين من فوق منبر الأزهر, ونادي جميع الملوك وجميع الرؤساء وأوضح أن هذه حرب في سبيل الله وأن الذي يموت فيها شهيد في سبيل الله وله الجنة, وأن الذي يتخلف عنها مات علي شعبة من شعب النفاق. واستجاب العالم العربي والاسلامي لدعوته الايمانية, وكانت مواقف البطولة التي حققتها قواتنا المسلحة والتي كان النصر حليفها بسببها. فرحم الله هذا الامام الجليل رحمة واسعة فقد كان أحد الأئمة الذين يجدد الله دينه علي أيديهم كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن الله يبعث علي كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها.