كان الوقت في نهاية السبعينيات عندما شاركت زميلا بريطانيا في حجرة جماعة الدارسين للدكتوراه, الذين يقومون بالتدريس للطلبة في الوقت نفسه بجامعة شمال إلينوي بمدينة ديكالب الصغيرة, والقريبة من شيكاغو في ولاية إلينوي بالولايات المتحدةالأمريكية. وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال كانت هناك مناقشات كثيرة حول ما ندرسه, وما نحاضر الطلاب به, وعن تاريخ بلادنا وما جري فيها من أحوال قريبة وبعيدة. وكان طبيعيا أن يحضر بين طالب مصري وآخر بريطاني تاريخ العلاقة بين مصر وبريطانيا; ولما كنت مشبعا في ذلك الوقت بالرؤية المصرية وحدها القائمة علي أن الاستعمار الإنجليزي كان السبب في تخلف مصر, وأن الغني البريطاني جاء نتيجة استنزاف ثروات الشعوب المستعمرة, فقد فاجأني زميلي بغضبه الشديد. وكان منطقه يقوم علي أن تقدم المملكة المتحدة راجع أساسا إلي التضحيات التي قدمها شعبها, وراح يعدد ليس فقط المنجزات التكنولوجية التي حققتها بلاده في فجر الثورة الصناعية وإنما التضحيات التي بذلها الشعب البريطاني من أجل الوصول إلي ما وصل إليه. وكانت التفاصيل كثيرة من أول المدن التي ازدحمت وانهارت مقوماتها, حتي القري التي هجرها أهلها بحثا عن ثروات مزعومة حتي انتهي بهم الأمر إلي الفقر والتسول والانهيار الخلقي المعنوي, والنساء والأطفال الذين عملوا لساعات طوال دون شفقة أو رحمة أمام أفران الصلب المنصهر دون حماية أو وقاية فسقطوا في سن مبكرة صرعي للأمراض والمجاعات. والحقيقة أن هذه الصورة الدرامية لم تكن بعيدة تماما عن الذهن, فكنت قد قرأت بالطبع روايات مهمة مثل دافيد كوبرفيلد و أوليفر تويست اللتين صورتا الأحوال البريطانية إبان الثورة الصناعية, ودرست أيضا خلال المرحلة الجامعية في مادة التاريخ الاقتصادي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الكثير عن التضحيات المختلفة التي قدمتها الشعوب التي سبقتنا خلال مراحل متنوعة من التطور; ولما كان بحثي في مادة الفكر السياسي يدور عن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا لدي كارل ماركس فقد كان لابد من قراءة الكثير من كتبه, وكلها غنية بآلام عمليات التحول في المجتمعات الصناعية. وعلي أي حال فقد استمرت المناقشات والحوارات, وربما توصلنا إلي نقطة وسط بشكل أو آخر, ولكن النتيجة المهمة كانت أن للتقدم ثمنا وتضحيات نادرا ما نتحدث عنها في مصر, حيث تبدو الأمور بسيطة للغاية ولا تتعدي تعديلات دستورية في المواد76 و77و88, وانتخاب واحد من أقطاب المعارضة, ومن بعدها تصبح مصر بلدا مثل سويسرا, أقل أو أكثر قليلا!. وحتي لا يسيء أحد فهم القصد والنية فإن تعديل هذه المواد كان مطلبا للعديد من المثقفين والسياسيين المصريين, منذ التعديلات الدستورية الأخيرة في عامي2005 و2007; ولعلي كنت واحدا منهم كتابة وحديثا ومشاركة في المحافل السياسية المختلفة, وضمن قلة تطلب البحث في دستور جديد كلية. ولكن قضية التغيير في مصر أكبر من ذلك بكثير لأنها لاترتبط فقط بالبنية القانونية والدستورية ولكنها ترتبط بالسياسات العامة والثمن الذي نحن علي استعداد لدفعه حكومة وشعبا. وقد كان الأسبوع الماضي بلا جدال هو أسبوع الدكتور البرادعي, حيث ظهر ست ساعات كاملة أو أكثر علي شاشة التليفزيون, بالإضافة إلي سلسلة من المقابلات والتصريحات الصحفية التي انتهت حتي وقت كتابة هذا المقال بلقاء القمة مع السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث اتفقا علي أهمية التغيير في مصر; وقبل سفره إلي الخارج أعلن عن تشكيل جمعية وطنية للتغيير أيضا. المسألة إذن هي التغيير أي الانتقال من حالة إلي حالة أخري مختلفة تماما ولكنها أكثر تقدما مما نحن عليه الآن; ولكن ما يحدث للأسف بعد ذلك هو قياسات غير دقيقة للواقع المصري الراهن, ومقارنتها بما تحقق في دول أخري, وبعد أن تصبح الحالة فاضحة فإن الصمت يهبط ثقيلا حول الخطوة التالية أو يتم الانتقال إلي قياسات أخري لإثبات النقطة ذاتها. قد كان مدهشا قليلا أن كثيرا من الأرقام التي ذكرها الدكتور البرادعي لم تكن صحيحة, فلم يكن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي1200 دولار, وإنما هو في كل تقرير دولي2180 دولارا, وهو فارق ليس قليلا; وإذا ما حسب باعتبار القوة الشرائية للدولار فإن المتوسط يصل إلي5347 دولارا. بالنسبة لمكانة مصر في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فهي بالفعل متدنية ومخجلة, إذ إنها تحتل الترتيب123 من177 دولة وليس175 دولة; ولكن التدقيق هنا واجب أيضا, حيث تتقدم مصر في مقياس الفقر لكي تصبح مكانتها82, وعند التدقيق أكثر في التقرير نفسه فإن نسبة من يعيش من المصريين علي أقل من1.25 دولار أقل من2% من السكان, أما من يعيشون بأقل من دولارين فهم18.4%. هذه الأرقام رفعها الدكتور البرادعي ليس فقط إلي42% من السكان, وإنما جعلها عند أقل من دولار واحد, وهو ما لم يأت من قريب أو بعيد في تقرير عالمي منشور علي شبكة المعلومات الدولية. وهذا التقرير يقيس أيضا درجة العدالة الاجتماعية في بلدان العالم المختلفة من خلال ما هو معروف بمقياس جيني, وفيه فإن المقياس المصري هو32.1 وهو أفضل كثيرا من دولة أكثر غني من مصر مثل جنوب إفريقيا ومقياسها57.8, والصين الشيوعية41.5, وإيران الإسلامية38.3, وفنزويلا الثورية والبترولية43.4 ولو نظرنا للمسألة كلها ليس من حيث الترتيب ولكن من خلال مقارنة مصر بنفسها فإن مقياس التنمية البشرية المصري ارتفع من0.496 عام1980 إلي0.703 عام2007, وعندها توجد آخر الأرقام المتاحة; ولكنها تشير إلي تحسن في الحالة المصرية برغم زيادة عدد السكان من40 مليونا إلي نحو80 مليونا أي ضعف ما كانوا عليه منذ ربع قرن. ومع ذلك فإن ما قال به الدكتور البرادعي فيه علي وجه العموم بعض من الصحة, ففقراء مصر كما تقول فعلا التقارير الدولية أقل من20% يقترب منهم نحو20% آخرين ربما كانوا أعلي من حد الفقر ولكنهم ليسوا بعيدين عنه. وربما كانت الأرقام في مجملها غير دقيقة, وفيها قدر كبير من الاختيار, وتتجاهل أن60% من المصريين ليسوا فقراء أو قريبين من الفقر, ولكنها صحيحة في أن مصر لا تزال قابعة في دائرة الدول المتخلفة, وهناك كثرة من الدول سبقتها, وهو ما يجعل المقارنة مشروعة في كل الأوقات. ولعلنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام كنا أول من نشر علي نطاق واسع تلك المقارنات بين مصر والدول الأخري باعتبارها تمثل مقياسا لمدي التقدم المصري حتي صار من الأمثال القومية تلك المقارنة الذائعة بين مصر وكوريا الجنوبية عند نقطة السباق الأولي عام1960, حتي وصلنا إلي بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين حيث بلغت المفارقة حدودا مفزعة. وهنا نصل تحديدا إلي لب القضية كلها, فالمقارنة تتيح مقياسا للتقدم والتغيير, ولكن مقارنة النتائج لا تصح دون الاستعداد للمصارحة بالثمن الواجب دفعه للوصول إلي النتائج نفسها, والتضحيات التي لا يمكن تجنبها حتي يكون التقدم ممكنا. وهذا يعيدنا مباشرة إلي مقدمة المقال, فسواء تعلق الأمر بالدول التي تقدمت منذ القرن التاسع عشر مثل بريطانيا والولايات المتحدة, أو الدول التي تقدمت خلال النصف الأول من القرن العشرين مثل ألمانيا واليابان, أو تلك الدول الآسيوية والأمريكية اللاتينية, أو في شرق أوروبا, في النصف الثاني من القرن الماضي, كلها قدمت تضحيات بالغة, ربما كان أهمها تغيير ثقافات سائدة, وسياسات متمكنة. وهناك قول ذائع لعالم الذرة الشهير ألبرت أينشتين إنه من قمة الغباء أن تفعل ما تفعله مرارا وتكرارا ثم تحصل بعد ذلك علي نتائج مختلفة!. وببساطة إنك لا تستطيع أن تحافظ علي سياسات للدعم تخلت عنها كل الدول التي تسعي للمقارنة بها, ونظم للتعليم والتربية لم يعد أحد في الدنيا المتقدمة يقبل بها, وتقيم نظاما للصحة لا يشعر أحد أن له ثمنا من نوع أو آخر, ويركز فيه المجتمع علي توزيع الثروة قبل خلقها, وتعطي النخبة السياسية في البلد من الاهتمام بالخارج ما يفوق الداخل, وإذا اهتمت بالداخل فإنها تريد نظاما سياسيا يختلط فيه الإفتاء بالتشريع; ثم بعد ذلك كله تتصور أن تحصل علي مكانة متقدمة في عالم اليوم حتي تصل إلي كوريا الجنوبية أو تركيا وتتجاوزهما أيضا. وقد كان مدهشا للغاية أنه خلال ست ساعات من المحاورات التليفزيونية مع الدكتور البرادعي لم يكن هناك إلا سؤال واحد حول سياسة الدعم; وكانت الإجابة لا تقل بعثا للدهشة, حينما قال إنه من البدهي الحفاظ علي دعم رغيف العيش, ولكن يمكن التفكير في تغيير دعم الطاقة. وهي الإجابة نفسها التي يقدمها الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء لأسئلة مماثلة, وربما الأغلبية الساحقة من أركان النخبة المصرية داخل الحكومة وخارجها, حيث يبقي نظام للدعم لم يعد موجودا في بلد متقدم في العالم. وما ينطبق في الحقيقة علي الدعم ينطبق علي كل السياسات الأخري التي تقوم في جوهرها علي إدارة المعركة مع الفقر وليس إدارة السعي نحو الثروة, وهو الفارق الأساسي بيننا وبين الدول التي سبقتنا. الرسالة هنا هي أنه إذا أرادت مصر أن تصبح مثل النماذج الاقتصادية الموجودة علي مستوي العالم, مثل تركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند, فلابد أن تنتهج سياسات وإجراءات شبيهة بما قامت به هذه الدول, كما أنه من الضروري دراسة خبرة هذه الدول في التعامل مع بعض القضايا ذات الطابع الاقتصادي الخاص بتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية حتي يمكن تحقيق التراكم الرأسمالي, وذات الطابع الاجتماعي كمكافحة الفقر وترشيد الدعم ومجانية التعليم, مع الوضع في الاعتبار أنها انتهجت في البداية إجراءات اقتصادية واجتماعية ربما تكون مؤلمة علي الصعيد الاجتماعي لكنها في النهاية أنتجت تداعيات إيجابية عديدة كان لها أثر كبير في ارتفاع مستوي معيشة مواطنيها. وتمثل ماليزيا واحدة من أكثر الدول نجاحا في استخدام الحوافز لجذب الاستثمار الأجنبي, حيث أصدرت قانون تشجيع الاستثمار في عام1968, قام علي السماح للأجانب بالاستحواذ علي100% من حقوق الملكية في شركاتهم عند قيامهم بتصدير80% من منتجات تلك الشركة, والسماح للشركات التي تصدر ما بين51% و79% من منتجاتها بنسبة مماثلة من حقوق الملكية لتلك الشركات, والسماح للشركات التي تصدر نسبة تتراوح بين20% و50% من منتجاتها بتملك حتي51% من أسهم تلك الشركات. وقد اتهمت الحكومة في هذا السياق بالتمييز, لكنها كانت ترد علي ذلك بأن الاقتصاد موجه للتصدير بما يؤدي إلي توافر العملة الصعبة وجذب التكنولوجيا, والأهم من ذلك حل مشكلة التوصل إلي شركاء محليين. ولعل ذلك هو الذي يمثل الفارق بيننا وبين دول مثل فيتنام التي نجحت في العام الماضي في اجتذاب63 مليار دولار, بينما كان ما حصلنا عليه لا يزيد إلا قليلا علي8 مليارات دولار, لأن الهدف الفيتنامي الواضح هو الحصول علي مكانة في أسواق العالم من خلال الشركات الدولية الكبري التي تقدم التكنولوجيا والقدرة علي النفاذ للمستهلك علي مستوي العالم كله. وفي العموم إن فيتنام والدول الآسيوية استندت كلها إلي النموذج الياباني الذي سعي إلي اقتناص أسواق عالمية من خلال الجودة والسعر ومن ورائهما العمل الشاق واكتساب الخبرة الدولية. وفي تركيا لم تكن الحال مختلفة كثيرا, حيث قامت التجربة علي المزج بين تشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية, ولذلك عملت علي تقليص دور وحجم القطاع العام في الاقتصاد ومنح هامش واسع من الحرية للقطاع الخاص, وعلي ضوء هذه السياسة تحول القطاع الخاص التركي ليصبح المحرك الرئيسي في الاقتصاد وأحد أهم أسباب ارتفاع معدلات النمو, بالتزامن مع إصلاح القطاع المصرفي, وقانون الاستثمار الأجنبي, وقانون حماية الملكية الثقافية والصناعية. أما في الهند, فقد وضعت الحكومة الهندية برنامج إصلاح اقتصادي واسع, اعتمد علي تقديم حوافز عديدة للمستثمرين بهدف تفعيل مشاركتهم في عملية التنمية وتقليص الجهاز البيروقراطي في الدولة, وتبسيط نظام الضرائب. في هذه الدول كلها مضافا إليها دول أوروبا الشرقية في مرحلتها الشيوعية والاشتراكية كان يوجد فيها نماذج مختلفة عما هو لدينا الآن, ووجدت هذه الدول أنه يستحيل دخول دائرة التقدم دون تمويل كاف للتعليم, وإذا كان لا يوجد غذاء بالمجان فلم يحدث في التاريخ أن كان هناك تعليم حقيقي بالمجان أيضا; كما وجدت أنه يستحيل تحقيق تقدم اقتصادي متواصل مع وجود أسعار مختلفة للسلع بعضها مدعوم وبعضها الآخر ليس كذلك, أو دون فتح الأبواب علي مصراعيها للمستثمر الأجنبي, ووجدت أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية دون أن يكون معها دولة مدنية حديثة دون تردد أو مماحكة. وخلال المرحلة المقبلة حتي الانتخابات الرئاسية في العام المقبل فإن جوهر القضية السياسية في مصر سوف يبقي حول أي مصر نريد؟ وهل هي جزء من القرن الحادي والعشرين كما تعكسه الدول المتقدمة في العالم المعاصر, أم أنها سوف تبقي علي حالها بأشكال محسنة لما كان يجري فيها خلال العقود الستة الماضية؟ وهل يمكن البحث في شكل النظام السياسي دون استقرار علي المهمة التي علي هذا النظام السياسي القيام بها؟ [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد