أشعر بالحسرة والغربة وغصة فى القلب وأنا أرى ما تلاقيه مصر من جحود من أبنائها.. أراها تُجر من شعرها وملابسها أمام أولادها وهم يضحكون ويبتسمون ولا يبكون.. أراها تقف عارية ولا يستر جسدها واحد من أبنائها.. أرى من يصب فوق رأسها زفتًا يغلى كمحاربى العصور الوسطى بتلك البرامج المدعوة والمزعومة والكاذبة.. يحدث فى مصر الآن.. يبقى أنت أكيد فى مصر.. ومصراوى فقط.. والصعايدة "راحو أو جم". أستغرب ممن يكتب فيلمًا كاملاً.. ولا يري فيها إلا الوجه القبيح.. مع أننا جميعًا نرى بلاد العالم فيها قبحًا أشد من عندنا ولكننا لا نراه فى أفلامهم.. وبرامجهم.. وإن ظهرت يلومون الحكومة على التقصير لا الوطن الأم. أتبرأ من كاتب سيناريو .. حين يظهر مواطن في أحد أفلامه أمام ضابط الشرطة.. فيسأله الضابط وأنت مين؟ يقوله له المواطن : "أنا مصرى".. (ما علاقة السؤال بالإجابة؟) .. فيضربه الشاويش الموجود بجوار المواطن على قفاه ضربة تؤدى به إلى سطح مكتب الضابط.. فيكرر المواطن عليه الرد.. مش بقولك أنا مصرى. والمعنى معروف وواضح وسخيف.. ألا يرى ذلك الكاتب وذاك الممثل أنهم يقدمون أسوأ ما فينا..بل ما ليس فينا.. إنهم لا يكشفون عورات نظام أو شلة أو عصابة إنما يكشفون عورات أمهاتهم هم.. وأمنا الكبرى مصر. والسينما مليئة بمثل تلك المشاهد التى لا تعد ولا تحصي.. عن حالة نفسية يعيشها مواطن بسبب حكومته ولا تعيشها دولة كاملة. أما المصيبة فى برامج تشويه سمعة مصر.. تعرض صورًا خفيفة الظل والعقل لمصرنا الحبيبة.. فما العيب أن يكون هناك فقير نائم على إحدى عربات الكارو وتتدلى منه يداه ورجلاه وأشياء أخرى.. وحدث ولا حرج عن صور فوضى النظام الحكومى والتى نرفضها بالقطع ويقدمونها على أنها شروخ فى مصر الحضارة أم 7000 سنة.. فلو مرت قلة من الناس مثلاً في طفح مجارى مائية وصورها أحدهم.. فالتعليق موجود.. قطعي الدلالة قطعى الثبوت.. يبقى أنت أكيد فى مصر.. ألا يمكن لمرة أن نشترك فى عرض صورة جميلة للوطن. حكى لى أحد أصدقائى المتزوج بامرأة ليبيه أنها سألته: "لماذا تفعلون ذلك بدولتكم؟ فقال نفعل ماذا؟ قالت: عندما كنت فى ليبيا وأشاهد أفلامكم فاعتقدت أن معظم المصريين سيئون عشوائيون مبعثرون و....... وعندما قدمت للقاهرة للانتقال إليها معك, ظلت هذه الصورة فى مخيلتى 6 أشهر ولكنها زالت تمامًا.. فأنتم فى غاية الجمال والطيبة والود والكرم والاحترام.. لماذا تشوهون أنفسكم".. انتهى كلام هذه السيدة الفاضلة.. ولا تعليق!! قد أتفهم.. هذه الصورة المشوهة للوطن في أفلام وبرامج وكتابات ما قبل الثورة.. على اعتبار أنهم ينتقدون نظام مبارك وعصابته و"قد" هنا لا تعنى إلا قبولاً للرأى الآخر فقط وليس قبول الفكر.. لأننى لا أقبل مثل هذا التشويه مهما تكن مبرراته أو أسبابه.. ولكننى لا أتفهم ما يحدث على الساحة الآن من برامج تباع فيها مصر فى سوق النخاسة.. وتكشف فيها عوراتها شبرًا شبرًا.. على اعتبار خفة الظل والدم والعقل.. ولكن أن يظل التشويه بعد الثورة فتلك لا أفهمها. فليس صحيحًا على الإطلاق أن الصعيدى هو مصدر القوة الجسدية والجنسية فى مصر.. وليس صحيحًا أن كل نساء البلد داعرات أو راقصات كما قال أحد الفنانين المشهورين "أنه لو نام في الشارع لأن راقصة تقيم تحت شقته .. فستضطر البلد كلها للنوم فى الشارع".. وليس صحيحًا أن كل ما ينبت فى الشارع فهو شوارعى.. وكل ما ينبت فى السوق فهو سوقى.. وليس صحيحًا أن الفلاحين مازالوا يرتدون جلبابًا أزرقا فاقعًا.. والمرأة المصرية مازالت تلف حول رأسها منديل "بأوية".. كما نرى فى مسلسلاتنا لقد شوهنا بيئتنا وأطلقنا عليها لفظ "بيئة".. وشوهنا تربة مصر السمراء وأطلقنا على مزارعين لفظ "فلاح" وكأنها سُبة.. وشوهنا بلدنا بكلمة فى غاية الاستظراف والقبح "دى بلدي". والمصيبة الكبيرة العظمى أن تخرج علينا قنوات عليها اسم مصر.. وكما يقال "البعرة تدل على البعير".. والبعرة قد تصول وتجول وتسافر وترجع وتضع في يدها وردًا أو برسيمًا.. ولكنها لا تدل على مصرنا الحبيبة. والمصيبة الأكبر أننا لا ندرك قيمة وطن ذكر فى القرآن الكريم أربع مرات.. أى ذكرت على لسان رب العالمين رب الأرض والسماوات ومن فيهن.. ذكر لو كان فى بلد آخر مرة واحدة.. لمشو رافعين رؤسهم لا يطولها ضربة من يد كاتب لا يعرف قيمتها أتمنى لو كان في وضعية المواطن الذى ضرب أمام الضابط.. أو ممثل لا يدرك أن الكلمات قد تصنع حاضرًا وقد تصنع تاريخًا. فمصر هي العنوان وهى الوطن وهى الملجأ.. وستبقى واقفة صامدة مهما حاولوا أن يجذبوها من شعرها حتى يضعوها على ظهرها. ولسنا أقل حبًا لمصرنا من الشاعر العظيم.. أحمد شوقي بك أمير الشعراء.. رجل نفته عصبة من دولته وحرمته من أعز ما فيها حرمته ترابها والأماكن التى تربى فيها.. فكتب عنها وقال: "وطنى لو شغلت بالخلد عنه... لنازعتنى إليه فى الخلد نفسي" لكن أحمد شوقى أدرك أن الوطن باق وأن الحكومة زائلة وأن الشخص الذى تسبب فى رحيله عن بلده ومحبوبته ومعشوقته لا يعبر إلا عن نفسه فقط.. لا يعبر عن وطن كامل يقدره ويحترمه الجميع فى الداخل والخارج إلا بعض الجهلاء من أبنائها. ** ارحمونا يرحمكم الله