ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذه الرسالة التى أحاول فيها أن أخرج ما بداخلى من أنين وألم علنى أجد من يواسينى برأيه أو يسدى إلى النصيحة. أنا شاب أعمل مهندسا فى شركة عالمية بالقاهرة. تربيت فى إحدى المدن الساحلية فى أسرة متوسطة بين اثنين من الإخوة الذكور، وأبى يعمل مديراً بإحدى الهيئات الحكومية، وأمى ربة منزل. كانت تربيتى تربية منغلقة ليس فيها الأب الصديق الناصح الحنون، لدرجة أننى قد ارتبطت بجيران لنا لم ينعم الله عليهم بالأولاد، وكانوا يعاملوننى كابنهم مما جعلنى اذا أردت شيئا طلبته منهم ولا أطلبه من أبي. كذلك لم أكن أشعر بدفء الأسرة الذى ينصهر فيه كل الأفراد فيصيروا كيا ناً واحداً يشعر كل فرد فيها بالآخر. فصرت إنطوائياً محدود العلاقات، لدرجة أننى أتذكر أن أول مرة كانت لى علاقة مع الجنس الآخر كانت بعد تخرجى من الجامعة، عندما عملت بأحد المصانع فى بلدتي، وهناك تعرفت على فتاة كانت هى أول من عاملنى بطريقة مختلفة، فكانت تعرف عنى كل اهتماماتي، وتحرص أن تفعلها أمامى لجذب انتباهى كالأغانى التى أحبها، وأنواع الأكلات التى أفضلها، بل وكانت فى الظاهر تتفق معى فى كل آرائي، حتى ظننت أن هناك توافقا فى الطباع والآراء بيننا، وذات يوم دعتنى هذه الفتاة للتعرف على أسرتها بدون أن تطلب منى أى شيء، وبعد عدة زيارات قالت لى إنها لاحظت منى حب الأسرة، وأننى أكون سعيدا لوجودى فى وسط عائلتها، ربما لأننى كنت أجد هناك ما لا أجده مع أسرتي، لأنهم كانوا يحيطوننى من كل جانب، ويتحدثون معى كثيراً. وبعد فترة وجدت هذه الفتاة تسألنى متى الخطبة؟ وعندما اندهشت من هذا السؤال، فاجأتنى بأنها قالت لأهلها بأننى أنوى خطبتها، ولكننى لم أفاتح أهلى بعد. وعندما حاولت الابتعاد عنها بدأت تلاحقنى بل واتهمتنى بأننى بهذا التصرف قد أسأت الى سمعتها بين جيرانها الذين كانوا يشاهدوننى عندها مرارا، ووسط كل هذه الملاحقات وجدت نفسى مقدما على خطبتها، وبعد فترة خطبة قصيرة تم عقد القران بعد إلحاح منها حتى لا يكون هناك حرج من خروجنا معا على حد قولها وبعد عقد القران بدأت ألحظ التغيير فى الأسلوب، وطريقة الكلام، فصارت تنفعل كثيراً حتى على أبويها، وأصبحت كثيرة الخصام ولا تتراجع عن موقفها إلى أن يعترف الطرف الآخر بأنه هو المخطيء، حتى ولو لم يكن كذلك، وبالاضافة إلى ذلك عندما كنت أذهب إليها أحيانا بدون موعد كنت دائما ما أجد البيت غير نظيف، وأجدها عابسة الوجه، وهذا ما كانت تخفيه بالزينة ومساحيق التجميل التى كانت تضعها عندما أذهب لمقابلتها فى موعد محدد مسبقاً، وكان ذلك يشعرنى بعدم الارتياح، وعندما قررت ألا أتم الزواج منها مهما كلفنى ذلك جاءت تعتذر لى لأول مرة منذ أن عرفتها، وتعدنى أنها ستكون إنسانة جديدة بل وستكون كما أريدها أن تكون، وأنها مستعدة لأن تفعل أى شيء لكى لا تفقدني، وفى النهاية تم الزواج، وحدث ما كنت أخشاه وبدأت الطباع الحقيقية تظهر من جديد، بل وتزداد مع الوقت، خاصة بعد أن رزقنا الله بالأولاد، وزادت حدة المشاكل حتى وصلت إلى تعمد الإهانة أمام الأهل والمعارف، بالاضافة إلى أنها قاطعت أهلى تماما، ولم تكن تأتى معى لزيارتهم حتى فى المناسبات، وكانت تعتقد أننى لن أتركها مهما حدث لأننى متعلق جدا بأولادي، ولا أستطيع البعد عنهم، فكانت تفعل ما يحلو لها وهى مطمئنة إلى أننى لن أتركها، حتى طفح الكيل وصار المستحيل ممكنا وتم الطلاق، وعشت أتعس أيام حياتى بعد أن فقدت أولادي، وأصبحت آراهم من وقت لآخر. بعد ذلك بسبعة أشهر قررت الزواج للمرة الثانية، وكنت حريصا فى اختيارى أن تكون طباعها عكس طباع زوجتى الأولى تماما، وقد كان، وتزوجت فعلا من امرأة مطلقة وكان تعليمها تعليما متوسطا، وفى بداية الزواج كنت سعيدا بإنتهاء المشاكل وهدوء المنزل، ونظافته مع وجود بعض السلبيات، مثل فرق الثقافة والمعرفة واسلوب الحياة بينى وبين زوجتى الثانية، ولكننى كنت أغض الطرف عن هذه الفوارق فى مقابل ما كنت أنعم به من هدوء، ولم يكن يؤرقنى إلا بعد أولادى عني، ومكثت على هذا الحال أربع سنوات، لم يرزقنا الله فيها بالأولاد، وشاءت إرادة الله أن يحدث نوع من التقارب بينى وبين زميلة لى فى العمل، وصار هذا التقارب إعجابا، ثم صار حباً، ووجدت نفسى مكبل اليدين، معصوب العينين، وأنا أندفع بعواطفى نحو هذه الفتاة، بدون أن اعترف لها، فقد وجدت فيها كل ما كنت أبحث عنه طوال حياتي، بل وصرت تلقائيا أعقد المقارنات بين أسلوبها وطباعها وردود أفعالها، وبين زوجتى الأولى والثانية فأجدها متميزة فى كل شيء ، وأننى لو كانت لدى الخبرة الكافية بالحياة من البداية لكنت بحثت عن مثلها بدلا من كل هذا التخبط الذى عشته. وفى ذات يوم فاجأتنى هذه الفتاة واعترفت لى بحبها، وهى تعلم أننى متزوج، بل وتوافق أن أجمع بينها وبين زوجتى الثانية، عندما قلت لها إننى لا أستطيع أن أظلم هذه الانسانة التى تزوجتها وأنا أعلم ما بها من مميزات وعيوب، وكنت راضياً بذلك، واتفقنا على أن أتقدم لخطبتها، وإذا بحياتى تنقلب رأسا على عقب بين عشية وضحاها، وإذا بالرسائل تنهال على هاتفى وبها أفظع الاتهامات، عن سلوك زوجتي، وعلاقتها بشخص آخر.. وبالطبع لم أصدق فى البداية، واعتقدت أنها مكيدة من أحد المغرضين، حتى أتتنى الدلائل عبر هذه الرسائل بما لا يدع مجالا للشك، ويكفينى فى هذا المقام أن أضرب مثالا على نوعية هذه الرسائل، والتى ذكر فيها أن السبب الذى كان يمنع الإنجاب هو أنها تستخدم إحدى وسائل منع الحمل، وتخفى ذلك الأمر عني. وعندما ضيقت عليها الخناق اعترفت بصحة ذلك، وصرت أنا الزوج المغفل المخدوع طيلة هذه السنوات الأربع الماضية، وانهارت صحتى وأصبت بمرض القلب الذى يسمى «متلازمة انكسار القلب»، وشلل جزئى فى اليد اليمنى والقدم اليمني، ودخلت العناية المركزة بأحد المستشفيات لتلقى العلاج، وتلاحقت فصول الغدر والخيانة من هذه الزوجة بعدما فضحت أمرها، فأرادت أن تجردنى من كل ما أملك تارة بمحاولة الاستيلاء على أرصدتى فى البنوك، وتارة بمحاولة إجبارى على التنازل عن ملكية شقتي، والأفظع من ذلك كله هو محاولتها منع علاج القلب عنى حتى أفارق الحياة على إثر نوبة قلبية، وأموت، ويموت معى كل شيء، وتأخذ هى كل شيء قبل أن أطلقها، والأغرب من ذلك أنها استطاعت بالمكر والدهاء خداع أهلي، وإقناعهم بأن كل ما يقال عنها إنما هو شائعات وكذب، وأن زوجها الأول وراء كل هذا، وفى النهاية انفصلت عن هذه الزوجة الخائنة، ووسط كل هذا الوحل الذى تمرغت فيه، وجدتنى أبحث عن الحب النقى الدافيء الذى أعاننى على تخطى هذه المحنة، وهو حب زميلتى التى لم تتركنى فى أيام مرضي، حتى تحسنت حالتى كثيرا على يديها، فقد كانت كل يوم تهمس بكلماتها الحانية فى أذني، وتظل تحدثنى بالساعات، فوجدت معها الدفء والنقاء، ووجدت فيها العفة والطهر والصفاء، وأحسست معها بالأنس والسكينة، وصارت هى كل حياتى وآمالي، وشعرت بأن الله قد عوضنى بها عن كل ما مر بى من ألم وحزن، وبعد فترة تقدمت إلى أبيها لطلب يدها، فأقامت أمها الدنيا ولم تقعدها بسبب طلبى لأنى قد سبق لى الزواج من قبل، وهى لا ترضى لابنتها بالزواج من شخص مثلي، وبالرغم من موافقة الفتاة على الزواج منى إلا أنها آثرت أن ترضخ لتعنت أمها، وتبتعد عنى فساءت حالتي، ودخلت المستشفى مرة أخري، بعد أن ضاع أملى فى الارتباط بهذه الفتاة وأصبحت أنتظر معجزة تغير موقف أمها، وبعد خروجى من المستشفى حاولت أن أعود إلى عملى الذى أهملت فيه كثيرا، وحاولت أن أنسى ما حدث، ولكن كيف هذا بعد أن تمكن حبها من قلبي، حتى صار كالرواسى الشامخات لا يمحوه إلا موتى أو هلاكي، بل صارت هى الدواء والأمل فى غد أفضل مما مضي، فقد أصبحت الآن بعد كل هذه السنين أستطيع أن أقيم الأمور بشكل أفضل، بعدما تعلمت من أخطائى السابقة وعلمتنى الحياة ما لم أتعلمه فى صغري. أعلم أنى أحصد الآن أخطاء ما سبق من حياتى ولكن هل يحكم على مثلى بالموت، أو بالعزلة عن الناس لأنى سبق وفشلت فى الزواج مرتين. أعجب لأم هذه الفتاة التى تريد أن تزوجها لأى رجل بشرط أن يكون لم يسبق له الزواج من قبل، فهل هذا دليل كاف على أنه سوف يحسن عشرتها، ويحافظ عليها، أم أن الذى ابتلاه الله بالنقمة حتما سيقدر النعمة ويحفظها، «فبضدها تعرف الأشياء». سيدي.. أغلب ما تعانيه فى حياتك من فشل متكرر فى الزواج والحب يعود إلى سيرتك الأولي، تربيتك المنغلقة، وانعدام الحوار داخل الأسرة. فما نحن فى كبرنا سوى ثمرات لبذور النشأة الأولي. عندما ينقطع الحوار بين الأب وابنه، ولا تجتمع الأسرة الا لتناول الطعام صمتا، ولا يلتفت الآباء إلى حاجة الأبناء لمن يحاورهم ويسمع منهم، يضحك معهم ويمنحهم ويمنعهم، معتقدين أن الأبوة تعنى الاهتمام بتوفير المأكل والمشرب والتعليم وتأمين المستقبل المادي، تكون النتيجة الانغلاق والانطواء واهتزاز المستقبل الانسانى الذى يتغذى على رصيد الماضي. ها أنت يا سيدي، تزوجت المرة الأولى بحثا عن الحنان داخل أسرة زوجتك، كنت متسرعا، لأنك وحيد لا تجد من تستشيره، فقد اعتدت على الوحدة واستسلمت لواقعك حتى أنجبت الأولاد، ثم قررت أن تكون حاسما فطلقتها، ولم تنتظر طويلا، وكأنك تريد أن تنتقم منها بالزواج السريع ومن امرأة على النقيض منها تماما. أردت أن تكون الأعلى فاخترتها أقل علما وثقافة ولكن هذا لم يرضك، وألقيت بالمسئولية الأخلاقية وعلقتها على مشيئة الله وهى سابقة ولاحقة دوما لتقترب من زميلة أخرى بدعوى الحب. ولأنك تبحث عن مبرر نفسي، ظهرت الرسائل المدينة والمشينة لزوجتك الثانية، والتى لم تلحظ قبل ظهور الفتاة الأخرى فى حياتك أى اعوجاج فى سلوكها. وهنا أنا لا أكذبك ولكن أتشكك فى تلك الرواية، فأنت تحكى كل شيء من وجهة نظرك أنت، والانسان منا صريع هوى النفس، لذا فلن أجعل من قذفك لمحصنة مبررا لارتكابك لجرم مشابه لما تتهمها به، فقد خنتها أنت أيضا ودخلت فى قصة حب مع أخرى وسعيت للزواج منها وهى غافلة. إنها رحلتك الدائمة بحثا عن حب وحنان افتقدتهما. وإذا سلمت بروايتك وتأكدك من خيانتها وسقوطك مريضا حتى شفيت وسعيت للزواج بتلك الفتاة، فكيف لى استيعاب هذا الانهيار النفسى والبدنى الذى أصابك لأن أم الفتاة اعترضت عليك. ألا يكشف هذا عن اضطراب وجداني، مراهقة لا تليق بمن فى مثل عمرك ومسئولياتك. ما أريد قوله لك ومعك، أنك تسعى وبدون وعى إلى تحميل الآخرين مسئولية فشلك، وإذا كان للآخرين دور فيه، فإنك لم تتعلم من أخطائك، فلا تلم تلك الأم على رفضها لك، فمقدمات حياتك لا تشير إلى إمكانية نجاح تلك الزيجة، حتى الفتاة نفسها لم تدافع عن حبكما بالقدر الواجب وكأنها هى الأخرى قلقة على مستقبلها معك. سيدي.. أنت مهندس مسئول وأب، فتماسك وواجه نفسك بأخطائك، ولا ضير من استشارة طبيب نفسي، حتى تواجه أثر ما عانيته فى طفولتك واختزنته فى داخلك وانعكس على حياتك الحالية، ولا تفكر فى الزواج إلا بعد أن تشعر بقوتك الداخلية، بقدرتك على تربية أبنائك بالطريقة التى كنت تتمناها لنفسك، فما آراه من رسالتك ينبيء بأنهم سيعانون مثلك بسببك أنت وأمهم.. تصالح مع ماضيك قبل أن تذهب إلى مستقبلك بعدها فكر فى حاجتك إلى إنسان يكمل معك رحلة الحياة فى ظروف تكون مقومات النجاح فيها أكبر من عوامل الفشل.. وإلى لقاء قريب بإذن الله.