سادت لفترة طويلة مقولة أن لدى اسرائيل أجهزة مخابرات هى الأكفأ فى العالم، وكانت تل أبيب تؤكد دائما أن مخابراتها هى الذراع القوية التى تطول أعداءها أينما كانوا، وتتشكل المخابرات الاسرائيلية من عدة أجهزة متخصصة تختلف طبيعة عملها وفقا لنوعية المهام المكلفة بها. وأهمها ثلاثة أجهزة هي: المخابرات العسكرية (أمان) والجهاز الثانى هو جهاز الأمن الداخلى (الشاباك) والجهاز الثالث هو المخابرات الخارجية (الموساد). وهذا الجهاز هو أهم هذه الأجهزة فيما يتعلق بالنشاط الاستخبارى الاسرائيلى فى المنطقة العربية والاسلامية بالتحديد. ويثور التساؤل هنا، لماذا تتجسس اسرائيل على مصر مع وجود معاهدة السلام؟! والاجابة تتحدد فيما صدر عن مؤتمر هرتزليا أهم المؤتمرات الاستراتيجية الاسرائيلية الذى يعقد سنويا ويضم جميع الشخصيات والقيادات الاستراتيجية الاسرائيلية واليهودية الأمريكية والأوروبية، وتتحدد خلاله المخاطر الاسراتيجية التى تواجه اسرائيل، وقد حدد المؤتمر المذكور فى دورته عام 2001 دائرتين تهددان الأمن الاسرائيلي: الدائرة الداخلية (حماس والجهاد) والدائرة العربية (مصر وحزب الله)، كما أن خريطة انتشار وتوزيع القوات المسلحة الاسرائيلية تكشف عن ذلك أيضا بصورة كبيرة. وبالنسبة لمصر، فقد زاد القلق الاسرائيلى حول ما يجرى فى مصر بعد الثورة وزاد من هذا القلق دخول قوى سياسية مناهضة لاسرائيل ضمن العملية السياسية وما هو متوقع من مشاركتها فى عملية صنع القرار السياسى وأقلقها كثيرا الحديث عن البرنامج النووى المصري، أو التوجه للاستثمارات فى مجال الفضاء، فاسرائيل تقلق بشدة من أى توجه مصرى لتوفير عناصر القوة. وكان اكتشاف الجاسوس الأخير حلقة فى هذا المجال وثارت تساؤلات كثيرة حول ما يمكن ان يدفع الموساد لدفع عنصر للقيام بمثل هذه المهام، وللإجابة عن مثل هذا التساؤل يتعين بداية أن نعلم أن مثل هذا الجاسوس لم يأت لتكوين شبكة تجسس بالمعنى التقليدي، ولكنه يندرج فيما يسمى فى علم المخابرات بعميل التأثير ويشترط فيه أن يكون حاملا لجنسية أخرى لدولة كبرى يمكن أن تمثل غطاء لنشاطه وتتدخل لحمايته عند الضرورة، وفى تقديرى أن وظيفته الأساسية كانت الانخراط ضمن مجموعة قيادات وعناصر الثورة، القوة الجديدة المحركة للأحداث فى مصر خلال المرحلة الحالية. ومن الواضح أن الجاسوس تلقى تدريبات فى منظمات مجتمع مدنى سياسية وحقوقية لها حضورها الدولى ومقبولة من دوائر مصرية ولنشاطها مصداقية دولية، وهو ما وفر له نوعا من المشروعية، حاول استثماره فى خلق علاقات مع ناشطين من شباب الثورة. وتأتى المرحلة الثانية من عمل هذا الجاسوس وهى استثمار العلاقات والمعارف والاتصالات التى نجح فى اقامتها وتعميقها للتأثير فى توجهاتها السياسية ككتلة ضغط، وبما يتوافق فى النهاية مع مصالح الجهاز الذى ينتمى اليه، ولعل أكبر ما يقلق اسرائيل حاليا هو نجاح الثورة المصرية فى بناء نظام ديمقراطى مستقر على اساس المواطنة. والمؤسف ان بعض رجال الإعلام المصريين تناولوا الموضوع بعدم الاهتمام المطلوب والتقليل من شأن المتهم وخطورته، عكس ما ورد بخصوص ذلك فى وسائل الإعلام الاسرائيلية، وفى تقديرى ان الأمر يتعلق بالحس الأمنى للمواطن فى كل من اسرائيل ومصر، فالمواطن الاسرائيلى الذى يسافر الى الخارج ويرى ما يمكن ان يمس الأمن الاسرائيلى حتى لو كانت شكوكا يقوم بنقل وجهة نطره لجهاز الأمن المختص، وهو ما نحتاجه خلال الفترة الحالية التى تواجه فيها المرحلة الانتقالية للثورة تحديات أمنية كبيرة لإعاقة تطور الثورة لبناء الدولة القوية، وفى تقديرى كذلك أن عملاء التأثير هؤلاء ليسوا أفرادا فقط، بل إن هناك جماعات ومنظمات لها أهداف محددة سوف تكثف نشاطها خلال الفترة القادمة لتطويع الثورة المصرية بما يتوافق مع مصالحها، ولعل فى دعوة بعض المنظمات الأمريكية والاوروبية لضرورة سماح مصر لمنظمات المجتمع المدنى بأن تنشأ بالاخطار وبدون موافقة الحكومة المصرية، وعدم مراقبة أى علاقات خارجية أو تمويل خارجى لها، وهو ما رفضته السيدة وزيرة التعاون الدولى أخيرا دليلا واضحا على ذلك يتطلب الانتباه اليه. المزيد من مقالات د. محمد مجاهد الزيات