فى مقاله الرائع «الحلم بالمستقبل»، المنشور فى «الأهرام» بتاريخ 3 يونيو 2011، تحدث عالمنا الكبير الدكتور أحمد زويل عن أحلامه الديناميكية، عن ولعه بالتجريب، عن فضوله المعرفى، ودهشته المتعلقة بمعرفة كيف أن مادة صلبة هى الخشب عند احتراقها تنتج غازًا يمكن. إشعاله بعود ثقاب، ثم كيف أجرى تجارب مبكرة لفهم ذلك الأمر، وهو يذكر لنا أنه كان يتبع حدسه، الذى قاده إلى الاكتشاف، ثم يحدثنا عن أسئلته التى كان يطرحها على نفسه، وعلى الآخرين، وكيف كان يحاول أن يجيب عنها، عن سفره إلى الولاياتالمتحدة، وإلى كالتك، عن حب الاستطلاع لدى «أليس فى بلاد العجائب»، والذى كان مفتاح الاستكشاف الذى يمضى أبعد من المجهولات المعروفة، عن الاختراقات العلمية التى يحركها حب الأفراد للاستطلاع، ثم يطوف بنا فى عالم الليزر، والفيمتو ثانية، والميكروسكوبات الإلكترونية الرباعية الأبعاد، والتجانس وعدم اليقين، وميكانيكا الكم والنسبية والكون الممتد، وحل شفرة الجينات، وغيرها من الأمور التى نجمت عن الفضول بسبر الأغوار، والذى يدفع «حب الاستطلاع». هكذا حلق بنا زويل مثل طائر بجناحين، جناح تحركه الأحلام والأخيلة بعيدًا، وجناح يدفعه الفضول وحب الاستطلاع نحو المجهول، إلي ما وراء المدرك والمعروف والمفهوم، ما يوجد خلف البيانات المعطاة، ما يوجد فى أعماق المادة والضوء والواقع والأرض. هكذا يكون حب الاستطلاع - كدافع معرفى - موجهًا من خلال أحلام محلقة متأملة مبهجة كبرى. ويقع دافع حب الاستطلاع فى بؤرة اهتمامات الدراسات النفسية الحديثة، وهو يعرف بأنه: دافع، توق، شغف، حاجة غلابة، رغبة قوية في الحصول على المعرفة. ولهذا الدافع وظيفتان تتعلق إحداهما بالحصول على المعلومات المتاحة، من خلال ما يسمى بالسلوك «الاستكشافى»، أما الثانية فتعنى بالحصول على المعلومات غير المتاحة من خلال ما يسمى بالسلوك «الاكتشافى»، الذى يهتم بالربط وإقامة العلاقات بين وحدات المعرفة التى تم الحصول عليها من قبل. وأمضى عالم النفس الكندى دانيال برلين (1924-1976) جانبًا كبيرًا من حياته محاولا فهم ودراسة حالات الحيرة المعرفية وعدم اليقين التى يمر بها الكائن الحى عندما يواجه منبهات ومواقف جديدة، أو يشعر بالملل والرتابة العقلية فى مواجهة المواقف والأفكار القديمة، وأدت بحوثه خلال ستينيات القرن العشرين وسبعينياته إلى إثارة الاهتمام بسلوك حب الاستطلاع لدى الإنسان والحيوان، ولدى الكبار والصغار، كما اهتم العلماء، خلال فحصهم لهذه الظاهرة الفريدة، بدراسة دور حب الاستطلاع فى التربية والتعليم والإنتاج والفن، وسلوك اللعب، وطرح الأسئلة، والعلم، وكذلك علاقة حب الاستطلاع بالطبقة الاجتماعية، والثقافة، وسمات الشخصية، والقلق، والإبداع، وخلال ذلك اهتم بعنصر الحيرة novelty، أو بحث الكائن دومًا عن الجديد، وهروبه من الملل الذى تحدثه الخبرات والمدركات والأفكار المألوفة والمتكررة، وهذا البحث الدائم عن الجديد هو جوهر عملية الإبداع ، ومثلما أن هناك علاقة عكسية بين حب الاستطلاع والملل والركود والقديم، فهناك أيضًا علاقة عكسية بين الإبداع والمألوف والمتكرر والنمطى، وكل ما يعيدنا إلى الوراء ويحاول أن يثبتنا فيه أو عليه. فالذين يدركون العالم على أنه جاهز ومغلق ومكتمل، سوف يفتقرون إلى الفضول المعرفى وحب الاستطلاع؛ ومن ثم فإنهم لن يجترحوا عوالم الإبداع؛ وذلك لأنه، وفيما يقولون، ليس «فى الإمكان» أبدع «مما كان»، وهذا هو الخطأ، أو «الخطل» نفسه. فى الدراسات المبكرة على الأطفال الرضع، وجد العلماء أنه قد يمكننا أن نميز منذ الشهر الثانى بعد الولادة بين الأطفال المرتفعين فى دافع حب الاستطلاع والمنخفضين فيه، من خلال مقارنة الزمن الذى يستغرقه هؤلاء وهؤلاء فى النظر إلى الأشكال المألوفة وغير المألوفة المعلقة فوق أسِرَّتهم (جمع سرير)، وهكذا يبدو أن هذا الدافع الذى تحدث عنه عالمنا الكبير أحمد زويل بمثل ذلك الشغف، هو دافع إنسانى، فطرى، أساسى، ثم يكون على البيئة وعمليات التربية والتعليم أن تقوم بتنميته وتطويره، أو تقوم بإخماده وتعسيره. ووفقًا لما قاله عالم النفس السويسرى جان بياجيه أيضًا فإنه عند سن الثالثة والرابعة، تعكس أسئلة الأطفال التلقائية رغبة ما تكون لديهم فى اكتساب المعرفة حول الجوانب النسبية للطبيعة، والحلم جسر يربط بين الطفولة والنضج، مثلما يربط الخيال بين اللعب والإبداع. هكذا كانت الدهشة، والتساؤل، والفضول، هى المحركات الأساسية للعقل الفلسفى - والعالم فيلسوف - ذلك العقل الذى يستجيب للتنافر ولثغرات المعرفة، كما لاحظ وليم جيمس، عالم النفس والفيلسوف الأمريكي (1842-1910) بالطريقة نفسها التى يستجيب من خلالها العقل الموسيقى للنشاز من الأصوات التى يسمعها، وقد ميز جيمس بين حب الاستطلاع العلمى «والدهشة الفلسفية» وربط بينهما.و كما أشار جورج سارتون فقد كان المحرك الأول للتقدم العلمى هو خليقة الفضول فى الإنسان، وإنه لفضول عميق الغرس، حتى إنه لا يقف عند مجرد الاستمتاع بالأشياء العادية، أو يكون موصوفًا بالأناة والتبصر. لقد قدم الدكتور أحمد زويل، من خلال مقال موجز ممتع شديد الخصوبة والثراء. وإنه مثلما فرحنا بوضع اللبنة الأولى فى مشروع «مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا»، فإننا ينبغى أن نحلم أيضًا بوضع اللبنة الأولى فى «مشروع مدينة محفوظ للفنون والآداب»؛ حتى تكتمل فرحتنا بهذين الرمزين المصريين العربيين الكبيرين. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد