زحام. زحام. زحام. هيصة. هيصة. هيصة نداءات وفرحة. حركة في الثبات وأحلام في الواقع. نهر الناس يتدفق نحو الأعالي علي نغمات الأغاني. سرت وسط زحام شديد مليوني النسمات متمهلا, متأملا, ولست متكاسلا بأي حال من الأحوال. عمق اللحظة التاريخية دفعني إلي حمل أماني الجماهير وحفظها في عيني. عصا في يدي أستعين بها في السير ونهر الناس يتدفق ويدفعني إلي الطيران. خفيفا كريشة وأحمالي في داخلي. عصا في يدي اليمني أتقي بها عثرات الطريق, وحقيبة ورقية بها عدة جرائد قديمة في يدي اليسري للجلوس عليها عند الحاجة. نظرت حولي واخترت بقايا حائط وكومة حجارة كما فعلت بالأمس. وضعت الجرائد القديمة وشددت العصا استند إليها في الجلوس, وفجأة انطلقت في الميدان الأغاني تصدح: يا مصر يا بهية يا أم طرحة وجلابية. وقفت علي الفور أستمع وأهز رأسي وأبكي الشيخ إمام وأصيح لوحدي في داخلي وبعض الأصوات تفلت مني وتفر مرات عالية ومرات خافتة: هذا يومك يا شيخ إمام. هذا يومك يا مولاي لماذا تركتنا في ساعة الفرحة بعد الفرج..؟؟؟ من في عمري لا يغني أو يرقص في ميدان التحرير أو في غيره من ميادين. أنا اكتفي بهز العصا أو رفع رأسي إلي السماء والعودة بعدها إلي زحام الميدان والهيصة بحثا عن أم طرحة وجلابية. لا أغني بصوت مسموع مع الجماهير أو بمفردي ولا أرقص, بل هي همهمات أنطق بها وتعلق في حلقي أو بلساني وعوضا عن الغناء أضرب الأرض بالعصا في دقات مع اللحن بينما حلاوة النغم تشدني ودموعي تسبقني لغياب الشيخ إمام وبقية الأحبة, أين ابراهيم منصور ونبيل الهلالي قديس المنطقة وأمل دنقل راوي الحكايات وصاحب الكعكة الحجرية, ويحيي الطاهر وعفيفي مطر ومحمد صالح وعدلي رزق الله ووليم الملك وسعد وهبة والفريد فرج ومحيي اللباد, وحسن سليمان؟؟؟ والقائمة طويلة طويلة في القلب.. فتاة جميلة, طويلة, قامتها مشدودة, ترتدي بالطو مناسبا لجو شهر فبراير المتقلب علي مقربة مني, في يدها باقة كبيرة من الورود البلدي الحمراء والزهور الملونة. دموعي جذبتها للنظر إلي والوقوف إلي جواري, تسير في الزحام توزع الزهور والورود علي عساكر البوليس ورجال الجيش. رأيتها أمس عند كوبري قصر النيل تقف بين عساكر الجيش تبتسم لهم وتضحك. واليوم قبل قدومي إلي هنا, رأيتها تقف أمام المتحف المصري توزع زهورها وهي تقف علي مصفحة حربية تبتسم وتضحك. وها هي تأتي إلي جواري وكأنها تبحث عني, سمعت اسمها أمس عندي نادت رفيقة عليها, لكنني نسيته اليوم, نسيت؟؟ قلت لا بأس: اسمها أم طرحة وجلابية. بالأمس اقتربت شابة أجنبية منها وسألتها بصوت خفيض جدا شيئا, أدرت رأسي بعيدا عنهما, وجاءني صوت أم طرحة وجلابية وهي تنطق بلغة فرنسية كأهلها بينما تشير بيدها إلي مداخل الميدان ومخارجه وكأنها ترسم خريطة علي الهواء للفتاة الأجنبية. ضحكت وضحكت وضحكت. صاحبة البالطو الثمين أم طرحة وجلابية في يدها زهور توزعها بالمجان وترطن بالفرنسية. فردت الجرائد علي بقايا الحائط المتهدم وساعدني رجل في الجلوس حتي اعتدلت. ذهبت الفتاة صاحبة الورد, وافتقدتها, وبعد قليل عادت الي وفي يدها زجاجة مياه, وطلبت مني شرب بعض المياه للتخفيف من الحر. تناولت منها الزجاجة. شربت وأردت أن أسدد لها ثمنها, ضحكت, قالت: هذه هدية من الثورة. نعم.؟ أنا.. وقالت اسمها لكنني لم أتبينه ولم أسالها عنه. قلت شكرا ياسيدتي. في هذا الزحام الأسماء لا معني لها, قلت: اسمها فريدة, نعيمة. حميدة. أم شاكر. زهية, هنية, سوسن, ماري, أم أحمد, لا فرق. تبينت هذه المرة مزيدا من جمالها ورشاقتها, تعطي الورود لرجال الشرطة والجيش فقط, حسنا تفعل. لا أحد يضايقها بكلمة أو نظرة, وتسير سعيدة بين الناس توزع البهجة وقد امتلكت حريتها في القفز علي المدرعات الضخمة المخيفة والحديث إلي رجال الجيش والشرطة. استمعت إلي أغاني الشيخ إمام واقفا وبعدها دون السيدة أم كلثوم بأغانيها الوطنية, قلت: هذه ثورة يا جدعان, أين كانت هذه الكنوز مخبئة بعيدا عنا بحثت عن الفتاة التي توزع الزهور بعيني. جاء بعض الأصدقاء ووقفنا نتحدث ونتبادل الأخبار حول ما يدور في بقية المحافظات. بعض المعارف سرهم موقعي القريب من شارع سليمان باشا حيث اقام الشباب دورة مياه نظيفة مؤقتة وكنت أتردد عليها من وقت لآخر وأثناء ذهابي وعودتي ألتقي بأبناء جيلي ونتسامر ونسخر من أنفسنا ونمتدح الأجيال الجديدة التي لا تكف عن الدق حولنا علي اجهزة لا نعرفها ولم نسمع بها من قبل وننظر إليهم ونضحك. هؤلاء هم؟؟؟ أصحاب الثورة. لا أبتعد كثيرا عن الحائط المتهدم, وقد أقام الشباب أمامه خيمة مؤقتة لإسعاف كبار السن والمتعبين صحيا ويبدو أن أمراض القلب ومشاكل الضغط تظهر في ساعات الفرح أكثر من ساعات الألم, الأطباء الشباب يتحركون بين الخيمة وخارجها يستقبلون الحالات القادمة. أجلس علي مقربة من الخيمة أتابع ما يدور, رواية فصولها متعددة وصفحاتها استمرت من جيل إلي جيل حتي طابت ثمارها. وقفت أمامي فتاة الورد, قدمت لي وردة, قالت: هذه لإبراهيم منصور. قبل أن اقاطعها وأقول صديقنا رحل منذ سنوات, سدت أم طرحة وجلابية منافذ الكلام أمامي, وقالت: إبراهيم منصور هنا. عن الكاتب: صدرت له عدة مجموعات قصصية منها:( الحداد يليق بالأصدقاء) و(أحاديث جانبية) وعدة روايات منها البحر ليس بملآن و(أصيلة) وهي رواية تجري أحداثها في المغرب وثلاثية الثورة2591 و4591 و1891 وأوراق سكندرية وخزانة الكلام وشهر زاد علي بحيرة جنيف.