مرة أخري يثبت أنه لا تنقصنا الأفكار, ولكن ينقصنا الفعل المناسب المتفق عليه في الوقت المناسب, فقبل أن تعود قوي ثورة25 يناير إلي وحدتها التي تتبدي اليوم في مظاهرات الثورة أولا,كانت هذة القوى قد تفرقت أيدى سبأ بين مطلب الدستور اولا وبين مطلب الانتخابات أولا. ثم سري الاختلاف بينها حول كل شئ تقريبا لدرجة عدنا معها نسمع اتهامات التخوين, والعمالة للصهاينة والأمريكيين, والتمول من الخارج تتردد صبح مساء في كل رواق من أروقة الجدل السياسي, ومن ثم وجدت المؤسسات المؤتمنة علي إدارة المرحلة الانتقالية- أي المجلس الأعلي للقوات المسلحة ومجلس الوزراء نفسها في موقف بالغ الدقة, فإن أرضت هذا الطرف, فسوف تغضب الآخر, ومن ثم تزداد حدة الاستقطاب السياسي, وقد يصل الأمر إلي حد إقصاء البعض, وهو ما يتناقض كلية مع روح وثورة يناير التي شارك فيها الجميع, وضحي من أجلها الجميع أيضا. لكن الصحيح أيضا أن كل من نتحدث عنهم من أطراف اللعبة السياسية في مصر كانوا واعين علي الأقل نظريا بخطورة الانقسام والاستقطاب, فانهمرت سلسلة من المبادرات في صورة تحالفات حزبية, ووثائق مكتوبة تؤسس لأرضيات مشتركة, وأصبح لدينا الآن إلي جانب وثيقة الأزهر لدعم مشروع الدولة المدنية, أربع وثائق علي الأقل هي علي التوالي, وثيقة الوفاق القومي, ووثيقة المجلس الوطني المصري, ووثيقة البرادعي, ووثيقة التحالف الوطني الديمقراطي المكون من حزب الحرية والعدالة الإخواني و17 حزبا آخرين. كل هذه الوثائق وغيرها من الآراء المتفاعلة علي الساحة تثبت أن ما ينقص ليس هو الأفكار, وإنما الذي ينقص هو التوافق علي رؤية تبلور القواسم المشتركة, وتوفر الضمانات المطلوبة, وتقرر خطط العمل. ونقطة البدء التي نقترحها لبلورة هذه الرؤيه هي تجريد القضايا الكبري المختلف عليها, والمطلوب إيجاد توافق حولها يحل محل الإختلاف من التفاصيل والفرعيات التي تشعبت كثيرا بتداعيات الجدال والتنابذ بين الأطراف بالاتهامات, والسباب في بعض الأحيان. في اجتهادي المتواضع أن تلك القضايا الكبري تنحصر الآن في ثلاث, الأولي هي ضمانات الدولة المدنية الديمقراطية, والثانية هي المحاكمات المقنعة لقتلة الثوار المتظاهرين, وللفاسدين من أركان وأتباع النظام السابق, والثالثة هي استرداد أموال مصر المنهوبة المهربة في الخارج وفي الداخل. بالنسبة لضمانات مدنية وديمقراطية الدولة سواء سميت هذه الضمانات بمبادئ حاكمة للدستور, أو ضمانات فوق دستورية, فإن أغلب القوي السياسية والوثائق سالفة الذكر قد وافقت عليها من حيث المبدأ, وذلك باستثناءات معدودة, أو بشروط مقبولة, منها ألا يصبح الدستور درجة ثانية بعدها. لكن العقدة الكبري هي الاختلاف حول المؤسسة التي سيعهد إليها بضمان عدم الخروج علي تلك المبادئ, وعلي الدستور نفسه, وقد- اقترح كثيرون ثقة في الجيش واستطرادا لدوره في حماية الثورة أن يكون هو المؤسسة الضامنة للدستور وللضمانات فوق الدستورية, لكن هل هذا هو الحل الأمثل بالنسبة للجيش نفسه, ولمستقبل الديمقراطية في مصر؟. لاشك أن الجيش سيكون له دائما دور في حماية الشرعية الدستورية بمعني التدخل عند اللزوم لمنع انقلاب تنظمه قوي سياسية أو غير سياسية علي تلك الشرعية, ولكن ذلك شئ, ووضع الجيش نفسه فوق الدستور بنص دستوري, أو بنص وثيقة الضمانات فوق الدستورية شئ آخر, لأن ذلك يعني وضعا لفرع من فروع السلطة التنفيذية فوق كل السلطات, ولأنه يعني أيضا تقنين اشتغال الجيش بالسياسة إلي ما لا نهاية, وهو ما يتناقض مع عقيدة قواتنا المسلحة القائمة علي الاحتراف العسكري, وعدم الانخراط في السياسة استخلاصا لدرس هزيمة عام1967, وحرصا علي عدم تكرار تجربة يوليو1952, وهذا ماسمعته بأذني من أعضاء في المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وهذا ما يقول به لسان الحال, قبل أن ينطق به لسان المقال. أما القياس علي النموذج التركي من ضمان الجيش الأتاتوركي لما كان يسمي بمبادئ الكمالية( نسبة إلي مصطفي كامل أتاتورك مؤسس الجمهورية العلمانية التركية), فإنه يجب ألا يكون واردا في حالتنا المصرية لأسباب كثيرة, أهمها أن الأتاتوركية قامت نقيضا لدولة الخلافة العثمانية, أي للحكم المرتدي عباءة الدين, وكان سببا في تخلف تركيا وهزيمتها, وليست هذه حالتنا, فنحن منذ دولة محمد علي نسير بخطي سريعة أحيانا ووئيدة أو متعثرة أحيانا أخري نحو مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية, كما أن الدور الخاص للجيش التركي في حماية العلمانية الأتاتوركية لم يكن مشروعا في الدستور, ولكن كان عرفا سياسيا, وعقيدة لدي الجيش نفسه, وأخيرا لماذا يتعين علينا أن نبدأ من جديد تجربة قرر أصحابها أنفسهم التخلص منها بعد أن اكتشفوا سلبياتها؟. ما هو البديل إذن؟ أحسب أن التجربة الفرنسية التي أخذنا منها الكثير في تطورنا السياسي من عهد محمد علي حتي دستور1971, مع التحفظ علي تشويهنا لما أخذناه من تلك التجربة وغيرها, يمكن أن تزودنا بالحل المنشود, وهو صيغة المجلس الدستوري الذي يناط به تقرير ما إذا كان قرار أو تصرف سياسي معين دستوريا أم غير دستوري, وهذا المجلس كيان يختلف تمام الاختلاف عن المحكمة الدستورية العليا, لأن الأخيرة يناط بها الفصل في دستورية أو عدم دستورية القوانين, وليس القرارات أو التصرفات السياسية, علي أن يتكون هذا المجلس من رؤساء الهيئات القضائية الحاليين والسابقين, واقدم أساتذة القانون الدستوري وشخصيات عامة أخري, أما الرؤساء السابقون للهيئات النيابية في عهد النظام السابق فهم موصومون بما نعلمه جميعا, وبالطبع يجب أن يكون أعضاء هذا المجلس غير قابلين للعزل, بصرف النظر عن طريقة أو جهة اختيارهم كما يجب أن تكون اجتماعاته دورية بحكم الدستور, وألا يملي عليه أحد جدول أعماله, فضلا عن تسهيل إجراءات تحكيمه في دستورية أو عدم دستورية السلوك السياسي للأفراد والأحزاب والمؤسسات والسلطات الدستورية نفسها. إذا توافقت القوي السياسية علي هذه الصيغة لتفعيل الضمانات فوق الدستورية, ولحماية الدستور نفسه, فإن دور الجيش هنا يصبح دستوريا إذا تطلب الأمر تدخله لحماية الشرعية الدستورية في حالة عصيان قرارات المجلس الدستوري, ولا يكون الجيش بذاته مشتغلا بالسياسة. وإذا انتقلنا من هذه الصيغة المقترحة للتوافق الدستوري, فيجب أن يكون هناك أساس سياسي لهذا التوافق الضامن لمدنية وديمقراطية الدولة, ومرة أخري نلجأ إلي تجارب الآخرين الناجحة لنستلهم منها أسس النجاح, والفاشلة لنفر منها فرار السليم من الأجرب, ولنكتفي بتجارب الدول الاسلامية الشبيهة بمصر من حيث الإنتماء للعالم الثالث, وأمامنا نموذج ماليزيا وتركيا واندونيسيا( حاليا), ومن ناحية أخري أمامنا نموذج باكستان, فالنماذج الثلاثة الأولي تمثل النجاح السياسي والتقدم الاقتصادي, والنموذج الأخير يجسد الفشل في كل شئ تقريبا( عدا امتلاك السلاح النووي), وباختصار فإن الفارق الرئيسي والواضح بين النموذجين, هو سيادة قيم الاعتدال السياسي في نموذج ماليزيا وتركيا وأندونيسيا, وسيادة قيم التطرف في باكستان وقد أنتج الاعتدال في النموذج الأول نمطا من الثقة المتبادلة بين أطراف اللعبة السياسية عبر عملية تراكمية بطبيعة الحال, في حين أنتج التطرف في حالة باكستان حالة من التشرذم والتناحر والإقصاء المتبادل, وأقحم الجيش في السياسة, فلا بقي الجيش جيشا, ولا بقيت السياسة سياسة ولا استمر هناك نمو اقتصادي, ولا اكتمل بناء الأمة المقسمة إلي قبائل وأقاليم متناحرة كتناحر الأحزاب والشخصيات السياسية. ولحسن الحظ فإن سيادة قيم الاعتدال في مصر ممكن بسهولة نسبيا, لأن روح الاعتدال هي السائدة لدي الشخصية المصرية في أغلب مراحل تاريخها, وعبر كل المذاهب والأفكار, وثانيا لأن هذا هو طوق النجاة الآن, وثالثا لأن الجماعات التي يخشي تطرفها باتت الآن جزءا من الثورة, وأصبحت تشعر بالالتزام بعدم إقصاء الآخرين, وعدم فرض رؤية واحدة للحياة وللحكم وللسياسة. صحيح أن هذا الشعور لايزال في بداياته, ولكن يمكن تطويره وتدعيمه, وصحيح أن هناك إستثنناءات تظهر بين الحين والآخر, ولكن التحول المأمول يتطلب وقتا, كما أن الاستهجان الشعبي الفوري الذي يلقاه الخطاب المتطرف سرعان مايلجيء صاحبه إلي الاعتذار أو النفي وهذا في كل الأحوال مؤشر طيب. القضية الرئيسية الثانية في الصراع السياسي الدائر الآن علي أرض مصر بعد تجريد ذلك الصراع من التفاصيل والفرعيات ذ, والمالي المتمثل في محاكمة المفسدين واسترداد ما نهبوه من أموال. حقا إن قضية قتل المتظاهرين مشحونة بالعواطف, ولكنها قضية حق قانوني وسياسي فهناك شبان وشابات قتلوا, وهناك قناصة شاركوا في قتلهم, وهناك سيارات دهست أجساد ثوار, وهناك أسر وزملاء ورفاق ميدان للثوار يتعطشون لأخذ حقهم القانوني والأدبي, وهناك آخرا قضاء يجب أن يبقي مستقلا ولكنه محمل بأعباء فوق الطاقة, وهناك بيروقراطية متأصلة تعرقل وتؤخر, وهناك معدومو الضمير الذين يتاجرون بالكل, ولكن انتصار الثورة واسترداد عافية الوطن يتطلب تضميد هذا الجرح النازف بعد تنظيفه بمحاكمات سريعة وليست متسرعة وعلنية وليست فوضوية. وقد كفانا المجلس القومي لحقوق الانسان في تقريره المعلن يوم الثلاثاء الماضي البحث عن حل يوفر كل تلك الضمانات ويقر العدالة ويثأر لشهداء الثورة بالقانون فقد اقترح المجلس تشكيل دوائر قضائية خاصة لمحاكمة قتلة الثوار وبما أنها ستكون دوائر من القضاء الطبيعي, فلا خوف علي العدالة, وبما أنها ستكون خاصة فإنها سوف تقهر ألاعيب البيروقراطية والمفسدين, وربما يكون من حسن الحظ أن هذا الاقتراح من المجلس الأعلي لحقوق الإنسان قد ظهر في الوقت الذي تولي فيه رئاسة مجلس القضاء الأعلي المستشار حسام الغرياني بما عرف عنه من انتمائه لتيار الاستقلال في أزمة القضاء الأخيرة مع النظام السابق, وليس في ذلك أدني مظنة في نية سلفه المستشار سري صيام الذي نكن له كل الاحترام, ولكن من المؤكد أن لكل شيخ طريقة في العمل وربما أو نتمني أن تكون طريقة المستشار الغرياني هي الأنسب للظرف الحالي للوطن. وأما قضية استرداد الأموال المنهوبة في الداخل والخارج المتداخلة بالطبع مع قضية المحاكمات في شقها المالي الجنائي, فإن المجال لن يتسع لكثير من الحديث بشأنها اليوم, ولكني أستطيع القول إن أجهزة مهمة في الدولة قد وضعت يدها علي المعلومات الكاملة عن الشبكات العنكبوتية المكونه من عشرات الشركات المتداخلة والمتوالدة, والتي استخدمها أركان النظام السابق لغسيل وتهريب الأموال, وفي مناسبة قادمة قد نتحدث عن هذه الشبكات بالتفصيل, ونبحث معا أفضل الطرق لاسترداد تلك الأموال قبل أن تدخل مرحلة الذوبان. وتبقي قضية التطهير اللازمة في مفاصل الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية, ولكن التطهير الحقيقي لن يستطيع القيام به إلا نظام تقيمه الثورة نفسها بالطريقة الديمقراطية. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد