من المؤكد أن ألوفا مؤلفة من المصريين في الريف وصعيد مصر, من أبناء القري والنجوع والكفور والواحات, لا يعرفون حتي الآن أنه قد حدثت في مصر ثورة تسمي ثورة الخامس والعشرين من يناير. وإن كانوا قد سمعوا بها مجرد سماع فلن تتعدي معرفتهم ما حدث لشخص. رئيس الجمهورية, وبعض أعوانه الذين كانوا رموز العهد البائد. أما أن هناك ثورة هي أهم الثورات وأخطرها وأبعدها أثرا في تاريخ مصر الحديث, قامت من أجل استعادة عزة الوطن والمواطن وكرامتهما, بعد أن عصف بهما العار والهوان, وغرقتا في مستنقع للفساد, لم تعرفه مصر في تاريخها كله, منذ عهد مينا موحد الوجهين, ثورة ترفع شعارات الحرية والعدل والديموقراطية والمساواة, وترفع معها رؤوس المصريين جميعا إلي عنان السماء, فهذا أمر لم يصل إلي هذه الجموع من مواطنينا, بالرغم من أننا نعيش عصر الاتصال في كل صوره وآلياته. حدثني صديق عزيز, أستاذ جامعي وعضو مجمعي ساقته الظروف إلي قريته القابعة في أعماق الصعيد, للقيام بواجب عزاء عن مكابداته عبر رحلة مفاجئة طويلة وقاسية, من أجل الحصول علي تذكرتي قطار له ولابنه, وكيف تلاعب به طويلا بائع التذاكر في القاهرة, حتي لان أخيرا بشرط أن تكون تذكرته إلي أسوان بدلا من سوهاج حيث يريد, ولما كان الرجل مضطرا إلي السفر العاجل للحاق بجنازة شقيقه, فقد أذعن لهذا الطلب العجيب, وهو أن يدفع ثمن مسافات أبعد بكثير من محافظته التي يريدها, وكان الغريب أن يحدث الأمر نفسه عند عودته من سوهاج إلي القاهرة, فقد اضطر مرة ثانية إلي شراء تذكرتين من سوهاج إلي الإسكندرية. يحدث هذا بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير بشهور عدة, ويكون بين بائعي تذاكر قطارات الصعيد من هم علي هذه الحال! أما القرية, وما يدور فيها وفيما حولها من حديث, فالناس عندما يجتمعون لا يشغلهم إطلاقا ما نسميه نحن بالثورة, وإنما هم في شئونهم ومشاغلهم التي اعتادوها منذ سنوات, وعلي مسافة من قرية صديقي الأستاذ الجامعي, كان هناك قرية أخري يتباهي فيها أحد رموز البلطجة والفساد في الحزب المنحل, قصصه وفضائحه يعرفها الكافة, عندما سئل عن موقفه من الانتخابات القادمة بأنه حيترشح ونص! وقلت لنفسي: وكيف يتاح لكل المصريين, في كل شبر من أرض الوطن, أن يعرفوا بأمر الثورة, ومقاصدها النبيلة, والثورة حتي الآن حبيسة في ميدان التحرير, وغيره من ميادين مصر, التي توجهت بأنفاس ملايين المصريين وحرارة هتافاتهم, وجسامة تضحياتهم والاستشهاد في سبيل وطنهم, ولم يسمح لها حتي الآن بأن تسير في شوارع مصر وحاراتها وأزقتها, وتدق أبواب بيوتها وساحاتها, وتخالط الناس وتعيش معهم وبينهم, وتشاركهم صحوهم ونومهم, ويقظتهم وحلمهم, وتصبح جزءا من نسيج حياتهم اليومية, بل تصبح هذا النسيج كله. إنها منفية بعيدا عن شبكات الإعلام الحكومي وقنواته, لا نكاد نراها حية إلا من خلال بعض القنوات الخاصة غير الحكومية, التي جعلت منها عناوين مصورة ومغناة للعديد من برامجها, ومادة ثرية للتذكر والتأمل بصورة يومية, بينما في الإعلام الحكومي يتكلمون عنها بضمير الغائب لأنها غير موجودة, أو لأنه ليس هناك من يمثلها في حقيقتها النبيلة البريئة غير المسيسة أو الموجهة لخدمة تيار أو اتجاه, والساحة مهيأة للمتربصين والمتقافزين عليها من كل لون واتجاه, لادعاء ملكيتها, والتجاسر بادعاء صنعها وتدبيرها, والتخطيط لها منذ سنوات طويلة, وبالتالي أحقية الصوت العالي, والتبجح في الكلام باسمها.. تخيلوا شريطا إخباريا واحدا مصورا, يدور في كل هذه القنوات التابعة للإعلام الحكومي, يعرض علينا مشاهد من هذه الثورة في لحظاتها المضيئة والحافلة بالصور الوطنية والإنسانية النبيلة, كل قناة بما تملكه وتستطيعه من أدوات وقدرات, ليصبح هذا الشريط مع غيره من الأشرطة المصورة, تجسيدا لهذا الواقع البديع الذي صنعته الثورة في أسابيعها الأولي, ولهذا الحلم الرائع الذي عاشته مصر واهتزت له بكل كيانها, وهي تشهد لحظات الحشد والميلاد وصولا إلي لحظات النصر والخلاص.. وتصوروا شبكات الإذاعة عاكفة علي صنع المقابل السمعي لهذا المشهد البصري الحاشد, تملؤه بهتافات الثورة التي هي جوهر دستورنا لبناء المستقبل وإقامة ركائزه, وتحشد له عشرات الأغنيات والأناشيد التي تدفقت بها الحناجر, ورددتها الملايين دون أن تتوقف أمام أسماء مؤلفيها وملحنيها, وكيف أسقطت هذه الملايين بحسها الواعي كل ما أنتجه العهد المشئوم من غناء كاذب موجه ومصطنع لم يكن سوي مجال للاسترزاق والنفاق, فإذا بها تستعيد أغاني حقبة كان يسكنها الحلم الوطني والقومي, وأناشيدها الباقية بقاء الصدق والأصالة والإنتماء. إن كثيرا من نقائص العهد البائد وسلبياته لا يزال مستشريا, في كثير من الهيئات والمؤسسات والشركات والنوادي والمصانع والتجمعات والبيوت, بسبب أننا لم نسمح لموج الثورة الهادر بأن يجرف في طريقه كل ما يبلبل صورة الحاضر ويحاول أن يشوه صورة المستقبل, الثورة وحدها كفيلة بأن تزيح هذا الركام كله, وأن تغسل مصر من أوضارها, وأن تهييء السبل أمام أداء وطني مختلف في كل شيء. بشرط أن يسمح لها بمواصلة دورها النبيل ورسالتها الأسمي, قبل أن تختنق في ميدان التحرير وغيره من الميادين. إن حلم الثورة يظل أكبر وأعظم من كل ما تحقق حتي الآن, وما تحقق حتي الآن لا ينكره إلا مكابر. لكن روح الثورة تتطلب المزيد, الذي لا ينبغي أن تضيق صدورنا بقفزاته وسرعة إيقاعه ونفاد صبره في كثير من الأحيان. ذلك أن إيقاع الثورة وشبابها, وصناعها الحقيقيين, يتجاوز بكثير إيقاع كيانات مترهلة, تكتفي بأن تركب الموجة, وتتصدر المشهد, وهي عاجزة عن خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح. أطلقوا سراح الثورة الحبيسة, حتي تكمل إنجازها العظيم, وحتي تصنعوا مستقبل مصر. المزيد من مقالات فاروق شوشة