حظر قانون السلطة القضائية علي رجال القضاء الاشتغال بالسياسة, كما حظر علي المحاكم إبداء الآراء السياسية, والمقصود بالحظر هو عدم السماح للقضاة بالانضمام إلي الأحزاب السياسية مما يؤثر علي حيادتهم, وتطبيقا لهذا لمبدأ رفض القضاة بشدة أثناء حكم عبدالناصر المحاولات الرامية إلي انضمامهم إلي (الاتحاد الاشتراكي) باعتباره تشكيلا سياسيا. وفي الآونة الأخيرة يثور الحديث في الأوساط القضائية حول قضية الاشتغال بالعمل السياسي غير الحزبي, فريق يري التوسع في الحظر الوارد بقانون السلطة القضائية, وفريق يري التضبيق من نطاق الحظر المذكور, وكلنا النظرتين يشوبهما العوار وتعوزهما الدقة, ذلك ان التوسع في المنع يحجب القضاة عن التفاعل مع هموم المجتمع والوقوف حيالها موقفا سلبيا. كما أن إهدار النص المانع كلية من شأنه أن يحدث انفلاتا وإغراقا في العمل السياسي المحظور بما يفقد القاضي حيدته وهي دعامة اساسية لسير العدالة, ونزاهتها ويقوض الشرعية القانونية التي ترتكز عليها العدالة وتفسح المجال أمام الأنظمة السياسية لاختراق القضاء والنيل من استقلاله. ولقد حدث أثناء مناقشة ميزانية الدولة لعام 1925م أن لاحظ النائب الوفدي فخري عبدالنور ان الحكومة رفعت راتب رئيس محكمة الاستئناف, فقال إن ذلك يعد افتئاتا علي استقلال القضاء, وطلب حذف الزيادة صونا لهذا الاستقلال فدافعت الحكومة عن هذه الزيادة ومع ذلك لم يقتنع الأستاذ فخري عبدالنور وطلب أن تناقش المسألة, وكان سعد زغلول هو رئيس مجلس النواب فقال: "إن موضوع المناقشة وإن كان بالنسبة للمبالغ المراد حذفها غير مهم إلا أنه مهم إلي الدرجة القصوي فيما يتعلق باستقلال القضاء" وقال يجب أن يكون القضاء مستقلا ويجب علي حضراتكم ان تضربوا علي كل يد تمد إلي هذا الاستقلال ولايجوز أن يمتاز قاض عن زميل له إلا إذا كان ذلك بحكم الزمن والقدم, وأراني حائزا لها الشرف بمنع تدخل الحكومة في استغلال القضاء, بهذه الطريقة المعيبة ثم قرر المجلس حذف العلاوات الشخصية المذكورة. ولقد اعتنق القضاء المصري منهجا وسطيا بين الحظر والإباحة وهناك تطبيقات عملية لهذا المبدأ, فلقد تصدي القضاء المصري لحماية الحقوق الأساسية من خلال الحكم الصادر من محكمة أمن الدولة العليا طواريء عام 1986, والذي يقضي بتبرئة عمال السكة الحديد الذين أضربوا عن العمل أن القانون يجرمه. وقد اسند الحكم في اسبابه إلي توقيع مصر علي اتفاقية دولية تقرر حق الاضراب في تاريخ لاحق علي سن القانون المذكور, كما أصدر القضاء الاداري حكميه في أواخر عام 1983 ومطلع عام 1984 قاضيا بحق احزاب المعارضة في عقد اجتماعاتها بأي مكان وإعلان برامجها عبر وسائل الإعلام, وألغت المحكمة الدستورية في منتصف عام 1986 "العزل السياسي", الأمر الذي أفسح المجال أمام رموز وطنية عديدة للدخول إلي الساحة السياسية. وقد اتخذ القضاء عبر تاريخه العريق مواقف ضد المستعمر والفساد الملكي وانحاز إلي جانب القوي الوطنية التي طالبت باتخاذ إجراءات تزيل آثار هزيمة 1967 فأصدرت الجمعية العمومية لقضاة مصر المنعقدة بناديهم بالقاهرة يوم 28 مارس 1968البيان الشهير الذي تضمن رأي القضاء في الاصلاح السياسي واستقلال السلطة القضائية, وقد رفع هذا البيان إلي رئيس الجمهورية في ذلك الوقت وقد ترتب علي هذه المشاركة السياسية في إصلاح المجتمع (مذبحة القضاة) عام 1969, ثم تصدي القضاة عبر مجلس إدارة ناديهم لمشروع قانون العيب المزمع إصداره, حيث أصدر المجلس قراره بجلسة الثالث من فبراير سنة 1980 بشأن هذا المشروع والذي جاء فيه: أولا: الأبراق إلي جميع المسئولين بأن المجلس يسجل اعتداء صارخا علي استقلال القضاء وأن المجلس يهيب بالمسئولين جميعا للعمل علي سحب المشروع احتراما للدستور وتأكيد مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء. ولقد اعترض القضاة علي مشروع قانون تقدمت به وزارة الداخلية في مطلع عام 1986 يقضي بإنشاء محاكم عسكرية خاصة لمحاكمة ضباط وجنود الشرطة, نظرا لأن هؤلاء مدنيين وليسوا عسكريين ولقد أجهض القضاة هذا المشروع, ولم ير النور. وسار القضاء علي هذا النهج القويم حاميا للحريات, سادنا للعدالة, ملتزما بمنهج الوسطية فلا تفريط ولا إفراط ولا إغراق في العمل السياسي ولا اجتناب كلية. وأختم مقولتي بما قاله الأستاذ صبري أبو علم لم يعرف القضاء المصري شيعا ولا أحزابا ولا حاكما ولا محكوما. عرف المصريين, يقيم العدل بينهم ويرفع مناره وينشر لواء القانون ويعلي جداره, فكان للمصريين في ليل الحوادث واضطرابها الملجأ الأمين والمنار الهادي.