البرلمان أولا ؟! تكاد النخبة الإعلامية والثقافية تتفق علي حملة مفادها ضرورة مراجعة خريطة الطريق الحالية والقائمة علي انتخاب البرلمان بمجلسيه أولا ثم بعد ذلك تكون واحدة من مهامه الرئيسية وضع دستور جديد للبلاد. حجج أصحاب الاعتراض علي ذلك والمناداة بوضع الدستور أولا سبق أن أشرنا لها; ولكن واحدة منها لفتت نظري خاصة بين المتحمسين وهي أن ذلك هو الأمر المنطقي, وهو ما سارت عليه دول العالم الأخري, ومن ثم تبدو الأغلبية وكأنها ليست فقط صاحبة حق سياسي وإنما هناك خلل في تركيبتها العقلية. والحقيقة أن ذلك ليس صحيحا بالمرة, فواحد من أعظم دساتير العالم وهو الدستور الأمريكي قام علي وجود البرلمان أولا ثم بعد ذلك جاء الدستور. والحقيقة أن الدستور الأمريكي جاء نتيجة توالي عدد من البرلمانات الكونفيدرالية التي بدأت حتي قبل استقلال المستعمرات الأمريكية حيث انعقد المؤتمر القاري الأول في5 سبتمبر1774 لمقاومة الضرائب البريطانية; ثم انعقد الثاني في10 مايو1775 لإنشاء الجيش القاري ثم إعلان الاستقلال في4 يوليو1776 وفي1781 تم وضع الدستور الكونفيدرالي الذي استمر العمل به حتي قيام الولاياتالمتحدةالأمريكية مع وضع الدستور الذي نعرفه اليوم. هذا الدستور جاء من خلال عملية شاقة جرت بين55 عضوا اجتمعوا في مدينة فلاديلفيا مفوضين من قبل البرلمان الكونفيدرالي منذ17 سبتمبر1787 حتي10 أكتوبر1788 عندما انتهت عمليات التصديق علي مواد الدستور من قبل الولاياتالأمريكية الثلاث عشرة والكونجرس الكونفيدرالي الذي وضع نهايته بيده بينما جرت عملية انتخاب الكونجرس الفيدرالي الجديد ورئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية جورج واشنطن. هنا, كما يجب, فإن ممثلي الشعب كانوا هم الذين اختاروا أعضاء المؤتمر الدستوري; وهم الذين صدقوا علي الدستور نفسه بعد ذلك, وفيما جري بعد ذلك من أيام في تجارب أخري كانوا هم الذين عرضوا الدستور علي الشعب للاستفتاء. وضع دستور جديد هو بداية جديدة لأمة عليها أن تشارك في الأمر منذ بدايته عن طريق ممثليها; ولا يحتاج الأمر وصاية من أحد لكي يقرر للشعب القانون الأعلي الذي سوف يحكمه. وإذا كانت النخبة الثقافية والفكرية تريد أن تلعب دورا, لا أن تخط طريقا, فهو أن تشرح وتوضح بأكبر قدر من التواضع. [email protected]