رغم أن الفضاء الافتراضي مزدحم بالمواقع و المنتديات والائتلافات الشبابية التي تتضارب وتتضاد رؤاها السياسية مما أدي لصعوبة تحديد حد أدني متفق عليه, سواء من حيث المطالب أو الأهداف أو منهج العمل, إلا أن الأمر يبدو مختلفا تماما عندما يتعلق الأمر بقضية ثقافية. و اليوم نرصد مبادرتين ثقافيتين جاءت الدعوة إليهما عبر الفيس بوك وتم الخروج بهما من حيز الفضاء الافتراضي لأرض الواقع وتحديد خطوات عملية لتحقيق الهدف, الذي يتلخص في حماية ذاكرة الوطن. حماية تراث مدينة القاهرة المعماري دعوة إيجابية أطلقتها جماعة من مختلف الأعمار علي الفيس بوك وبدأت تأخذ طريقها علي أرض الواقع عندما عقد الاجتماع الأول للجماعة يوم الأربعاء الماضي لوضع تصور للجهود المجتمعية للحفاظ علي تراث القاهرة العمراني. وتأتي أهمية هذه الدعوة في تبني منظور مجتمعي يدرك أن التراث العمراني في كل مدينة دفتر لأحوالها ولكل ذكرياتها, وأن الشوارع والأزقة والبنايات والحدائق هي التجسيد المادي الملموس لذكريات المجتمعات وثقافة المدينة وخبراتها والتحولات الثقافية والاجتماعية التي شهدتها, وفي هذا السياق تحاول الجماعة تفعيل ترسانة القوانين التي تجرم استباحة المباني ذات القيمة التاريخية والأثرية والعودة لقوائم حصر المباني التاريخية التي تم تجميدها لسنوات طويلة سواء عن جهل أو طمع. وقد أسفر اللقاء التحضيري للمشاركين في المبادرة عن الدعوة لتبني نفس المنظور علي امتداد محافظات مصر عبر تكوين كيان مؤسسي أهلي يدعم الجهد الحكومي, ويسعي لنشر ثقافة الحفاظ علي الآثار بين جموع الشعب خاصة بين سكان المناطق المحيطة بالآثار. ونحن إذ نضم صوتنا لدعم هذه المبادرة نجدد المطالبة بوضع أسس ومعايير لعمليه توثيق شاملة لتراثنا المعماري وتسجيله بعد أن توقفت عمليات تسجيل الآثار لسنوات طويلة وتم إخراج العديد منها من القوائم الأثرية بدعوي ضعف الموارد المالية وندعو لتفعيل القوانين الخاصة بالتراث العمراني المصري كي لا نستيقظ ذات صباح لنجد أنفسنا محاصرين في مدن بلا تاريخ... - نعم للمتحف اليوناني دعوة أطلقها مجموعة من مثقفي الإسكندرية للاستفادة بمساحة أرض محافظة الإسكندرية بشارع فؤاد وضمها للمتحف الروماني. وتأتي هذه الدعوة لتعيد فتح ملف متحف يعد ثالث أهم المتاحف الأثرية علي مستوي الجمهورية, إضافة لكونه أول المتاحف المصرية التي اعتمدت علي فكرة العرض المفتوح, كما أنها تفتح من جديد ملف خبيئة الآثار, وطبقات التاريخ المطمورة تحت ثري الثغر التي ضاعت بعض معالمها أو تم طمسها-مع الأسف- لإعاقة تسجيلها أثريا أو القيام بالحفائر اللازمة, بهدف الإسراع في استغلال الأراضي و الاستفادة من أسعارها الفلكية دونما اعتبار للقيمة المعنوية و المادية لما قد يكشفه باطن الأرض وأعماق البحر من آثار وأسرار عن مدينة توالت عليها حضارات متنوعة منذ أقدم العصور. فالمتحف اليوناني المخصص للمقتنيات الأثرية في العصر اليوناني الروماني منذ نشأة الإسكندرية من القرن الثالث قبل الميلاد إلي القرن الثالث بعد الميلاد, والذي افتتحه الخديو عباس حلمي في17 أكتوبر1892 وإن استمر البناء لاستكمال باقي قاعاته والواجهة حتي عام1900, يواجهه منذ سنوات مشكلة تكدس القطع الأثرية و صعوبة استمرارية أسلوب العرض المفتوح في حديقة المتحف و عدم وجود مخازن مناسبة لحفظ القطع المكتشفة حديثا. وقبل سنوات قليلة ومع إغلاق المتحف لتطويره, ظهرت بوضوح المشاكل التي باتت تهدد بفقدان المتحف أهم مميزاته, ألا وهي العرض المكشوف في حديقة المتحف العريق. وفي تلك الأثناء حاول عدد من مثقفي الثغر حل المشكلة بأكثر من طريقة, كان من بينها مفاوضات لشراء الأرض المجاورة للمتحف لا بقائه في نفس المكان الذي احتله لأكثر من مائة عام, لكن المشكلة لم تجد طريقها للحل حتي هذه اللحظة. وفي تصوري أن الدعوة التي يتبناها اليوم مثقفو الثغر والمهتمون بالآثار بقدر ما تمثل حلا لمشكلة المتحف اليوناني المزمنة, بقدر ما يمكن أن تؤصل وتدعم حركة بحث وتنقيب عن المدينة الأثرية المختفية تحت ارض منطقة الإسكندرية القديمة التي تؤكد الشواهد وجودها. وفي هذا الصدد لابد أن أشير للصوامع والآثار الغارقة في منطقة الشاطبي وأبي قير وغيرها من شواطئ الإسكندرية التي تم اكتشافها في ثمانينيات القرن الماضي والتي ترسم حدود البلدة القديم التي زحف عليها البحر واختفي جزء كبير منها بسبب زلزال1303 الشهير- في عهد السلطان الناصر بن قلاون, وبواقعة اختفاء السيدة السكندرية, قبل سنوات, داخل الهبوط الأرضي في منطقة النبي دانيال وقد قيل آنذاك إنها اختفت في سراديب المدينة القديمة, وأخيرا وليس آخر, ما رأيته بنفسي وشاهده زميلي المصور حسين فتحي من آثار علي مسافة قريبة من سطح الأرض أثناء عمليات الحفر في المتحف البحري بستانلي لإقامة قاعدة لتمثال إيزيس الذي تم انتشاله من البحر أمام شواطئ الإسكندرية, وما يردده المارة في شوارع الثغر عن آثار, تجاهل وجودها مقاولو الهدم لتدفن تحت البنايات الحديثة. ما سبق يؤكد أن المسح الأثري للمنطقة التي أضيرت في أحداث حريق المحافظة قد يكشف لنا الكثير من خبايا و معالم هذه المدينة العتيقة وربما أيضا قبر الاسكندر مؤسس المدينة, علي حد تعبير د. خالد عزب الذي دعا للحملة. وسواء كشفت الحفائر عن آثار أم اقتصر الأمر علي مجرد حل مشكلة المتحف اليوناني, فإن تحويل كارثة حريق محافظة الإسكندرية لعمل يدعم حركة السياحة لمدينة لا تتجاوز المدة التي تحددها شركات السياحة لزيارتها يوما واحدا, وتشجيع عمليات المسح الأثري للأراضي في الإسكندرية قبل البناء عليها, دعوة إيجابية أخري خرجت من العالم الافتراضي لأرض الواقع اليومي لتفتح مجالات بحث و تحقيق في فترات مهمة في تاريخ مصر و علاقاتها بدول الجوار. وفي نفس سياق توثيق ذاكرة الأمة و أيامها- بغض النظر يطالعنا خبر عبثي حول صدور أوامر شفهية عن ألوانها داخل اتحاد الإذاعة و التليفزيون بحذف المشاهد و المقاطع و المواد الفيلمية التي يحتفظ بها التليفزيون المصري عن الرئيس السابق و مشاهد شرحهللضربة الجوية في73,, إضافةلأنباء عن مشكلة أثارها عدد من أعضاء مجلس إدارة النادي الأهلي بخصوص ظهور عدد من رموز النظام السابق في فيلم المايسترو أثناء تقديمهم واجب العزاء, الأمر الذي يعيد للذاكرة قصة منع أغاني أم كلثوم من الإذاعة عقب ثورة يوليو وحجب كثير من الأعمال الفنية( مثل أغنية الفن لمحمد عبد الوهاب) و المشاهد الوثائقية التي توثق تاريخ مصر لمجرد ورود اسم العائلة العلوية فيها أو ذكر أي من الإنجازات أوالأدوار الوطنية المهمة التي لعبها عدد من رجال مصر الشرفاء لمجرد أنهم عاشوا في ظل الحكم الملكي. ومن المؤسف أننا نكرر نفس الخطأ رغم مرور السنين ونتجاهل حقيقة أن التاريخ أيا كان لونه وأيا ما كانت تحفظاتنا أو رفضنا للأدوار التي لعبتها شخصيات بعينها في مرحلة ما, يظل جزء مهما من تاريخ الوطن لا يمكن حذفه مهما حاولنا, بل أن الحفاظ عليه ضرورة لفهم مسارات الأحداث والتطور التاريخي في حياة الأمة واكتشاف مواطن الخلل علي أمل تلافيها مستقبلا. لقد تم خلال السنوات الماضية مسح الكثير من الشرائط التي تحمل صوت مصطفي النحاس و الملك فاروق والرئيس عبد الناصر, وبعضا من خطب السادات و حجب الجريدة السينمائية الناطقة, بينما تم حفظها في أرشيف إذاعات وتليفزيونات دول عربية بل وإذاعة إسرائيل, فهل هم أحرص منا علي حفظ ذاكرة مصر وتاريخها, أم أنهم يدركون أهمية هذه الوثائق المرئية والمسموعة؟ إن عمليات الحذف التي تتم علي قدم وساق بدعوة عدم استفزاز الجماهير ما هي إلا تزوير للواقع و محاولة لاقتطاع سنوات من عمر الوطن من حق الأجيال القادمة أن تعرفها, وأن تقيمها وتدرسها دونما حاجة لتسولها من فضائيات غير مصرية مثلما حدث مع حفلات أم كلثوم وأعداد جريدة مصر السينمائية. ولعلنا لا ننسي أن عمليات الحذف والذبابة الطائرة المحلقة دائما وأبدا فوق صورة الملك فاروق في أفلامنا السينمائية لم تمح اسمه ولا سنوات حكمه لمصر- مثلما لم يمح تكسير مسلات حتشبسوت أسمها من التاريخ. فالتاريخ أحداث وحقائق تعكس أيام الأمة وأحوالها بغض النظر عن الأحكام القيمية أو الآراء السياسية. [email protected]