حين أراد جاليليو ذلك العالم النابغة أن ينتصر لفكرة كوبرنيكوس القائلة بأن الشمس هي محور الكون وليست الأرض ومن ثم فإن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس, وأن الكواكب السيارة أكثر من سبعة كواكب, أعلن ذلك في كتاب سماه التجارب ناقش فيه ماحاول إثباته بمنهج علمي. لكن كارثة جاليليو أنه كان صاحب نظريات صحيحة في الزمن الخطأ, ففي الوقت الذي أثبت فيه حقائق علمية خالف جاليليو آراء بطليموس تلك الآراء التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكية آنذاك واعتبرتها حقائق مطلقة غير قابلة لمجرد النقاش لا الهدم, ولذا تعرض جاليليو لمحاكمة ظالمة من المجلس البابوي في روما عام1633 م وأجبر علي الاعتراف بأن الأرض لا تدور حول الشمس عكس مايعتقد ففعل ثم دب بقدميه علي الأرض قهرا وكمدا و قال قولته الشهيرة ولكنها تتحرك. هكذا كانت تعيش أوروبا تحت سطوة حكم البابا في روما هشة متحجرة أرضا بورا لا تنبت عالما ولا ترعي فكرة ولأن ناموس الله لا يتغير ولا يتبدل ولأن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ويهزم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة كما يقول ابن تيمية فقد ثارت أوروبا علي حكم الكنيسة وعلي قرون التخلف والجمود وكان الدواء الناجع لجسدهما هو فصل الدين عن الدولة أو ما يعرف مصطلحا باسم العلمانية. كانت العلمانية دواء ناجعا لأوروبا لسببين أحدهما يتعلق بطبيعة الدين والآخر يتعلق بالتجربة البشرية أو ما يطلق عليه المتخصصون التراكم الحضاري فالدين المسيحي عني أول ماعني بالارتقاء بالنفس وحض المتبعين له علي التسامح والرحمة والمحبة مع كل دوائرهم البشرية بكل أطيافها ومعتقداتها ولم يول الحكم والسياسة أهمية أو اعتبارا فكان ظلما للمسيحية أن تتصدر المشهد السياسي أو تكون شرعيتها مرجعية سياسية في قرون أوروبا الوسطي, السبب الآخر الذي أثبت فاعلية العلمانية ونجاحها في دفع أوروبا إلي الأمام هو التجربة البشرية عبر أكثر من ألف سنة تلك التجربة التي أوجدت يقينا لدي الاوروبيين أن فصل الدين عن السياسة هو حصانة للدين وطهره من دنس السياسة والحكم وكذلك هو تحرر العلم المتغير من قواعد الدين الثابتة. تلك هي العلمانية الدواء الناجع لانتشال أوروبا من عصورها الوسطي المظلمة فهل ينفع هذا الدواء في جسد أمتنا العليل؟ للإجابة عن هذا التساؤل لابد أن نقارن بين أسباب العلة في الحالتين فإذا اتفقنا في العلة صار نفس الدواء شافيا وإن اختلفنا صار اختلاف الدواء بديهيا بل واجبا وأعتقد أن هذا المبدأ لا يختلف عليه باحث منصف. حين ابتعث الله رسوله الكريم محمد( صلي الله عليه وسلم) ابتعثه ليحيا الناس بالإسلام منهجا متكاملا وأمره أن يعلم الناس ذلك في قوله( سبحانه وتعالي) في سورة الأنعام قل إن صلاتي ونسكي محياي ومماتي لله رب العالمين(162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين(163) أما كون الصلاة والنسك والممات لله فهي معلومات للعامة ومتفق عليه مع الجميع لكن كيف تكون الحياة كلها لله؟ تكون كذلك حين يكون الإسلام شريعة الله هو المرجعية المسلم فردا و جماعة في كل حياته من يقظته حتي نومه في عمله وبيته وفكره وفكرته سواء كان خفيرا أو وزيرا, رجلا عالما أو فقيرا عاملا, ولتحقيق هذه لمرجعية تميزت الشريعة الإسلامية بقدر من المرونة والتطور لم تتميز به أي شريعة سماوية أو أرضية سواها وذلك لكونها خاتم الشرائع فيصبح من المنطق أن تكون أشملها وأعمها ويكفي هنا الإشارة إلي ماقاله المؤرخ الإنجليزي ويلز في كتابه ملامح تاريخ البشرية إن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت هو الإسلام ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن ومافيه من نظرات ومناهج علمية وقوانين اجتماعية فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ, وإذا طلب مني أن أحدد معني الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة, الإسلام هو المدنية يا لسخرية القدر لقد فهم هذا الغربي الإسلام أفضل من بعض أبنائه! وهكذا نجد أن طبيعة الإسلام و تشريعه تحتم علينا أن يكون الإسلام مرجعيتنا وذلك خلافا لطبيعة الكاثوليكية التي حكمت أوروبا في القرون الوسطي. النقطة الأخري التي يجدر بنا الإشارة إليها هي أن عصورنا الوسطي( مسلمين وأقباطا) حين كان الإسلام يمثل المرجعية الفكرية للأمة أفرادا وجماعات كانت عصور حضارة ورقي وتقدم وريادة وأنا هنا أستشهد بما قالته المستشرقة الألمانية زيجريت هونكه في كتابها شمس العرب تسطع علي الغرب الذي صدرت طبعته الأولي1964 حين قالت إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء والتي بدأت من لا شيء هي جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني وأن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها لدرجة تجعلها أعظم من أن تقارن بغيرها... ولكن كيف حدث هذا؟ إنه الإسلام.. مما سبق يتضح لنا أن سبب تخلف الأمة وجمودها هو الجهل بطبيعة الدين وعدم وضعه في مكانه الصحيح كمرجعية حضارية للأمة, والسبب الآخر هو عدم الاستفادة من تجربتنا الحضارية الراقية في عصر نهضتنا التي ارتكزت علي الإسلام كمرجعية والبناء عليها, هذان السببان في الحقيقة هما بالضبط عكس أسباب تخلف أوروبا و جمودها في عصورها الوسطي, ولذا عندما حاولنا استدعاء نفس الدواء العلمانية لداء مختلف في جسد الأمة العليل أصبناه بالشلل التام من حيث أردنا أن نبرئ سقمه, وصدق فينا قول الشاعر أبحث عن دواء للعليل وشفاء سقمه في يدي. المزيد من مقالات حسام الكاشف