ما أن تشرع في قراءة كتاب السيدة تحية جمال عبد الناصر عن ذكرياتها معه حتي تدهشك لغته الدافئة, الدقيقة, والمباشرة. وسواء كانت السيدة الكريمة كتبت هذه الصفحات بنفسها أو أملتها فإنك لن تخطيء أبدا روح ربة البيت الحنون التي كرست حياتها لرجلها والأبناء, كما أنك لن تخطئ ما كانت عليه من ذكاء وخفة ظل لا تخلو من تلقائية جميلة وقدرة علي التقاط التفاصيل العابرة في ذلك العيش المشترك: وأذكر مرة أن طلبه وزير الأوقاف وكان ينطقها باللغة العربية, وعند حضور جمال وكنت نائمة وصحوت فقلت: وزير القوقاف بدل وزير الأوآف كما ننطقها سأل عنك وطبعا ضحك وضحكنا. كما سوف يدهشك عبد الناصر نفسه ومقدار ذلك الحنو والرعاية الدقيقة التي لا تغفل شيئا كبيرا أو صغيرا يتعلق بأسرته وحرصه علي شعورها. تقول: كنت أثناء شهور الحمل في خالد أتمني أن يكون المولود ولدا.. ودائما أذكر أمام جمال أني أريد ولدا.. فكان يرد علي بقوله: إن الله ينظم ملكه كيف شاء.. هل تريدين تنظيم الكون؟ لا فرق بين ولد أو بنت, فكنت أقول له: لكني أريد هذه المرة ولدا. أما حياته السياسية فهي لا تعرف عنها شيئا, إنهم يأتون لبيته ليلا حيث يجتمعون ويدبرون, لا تري أحدا وتتعرف علي أقرب رفاقه من أصواتهم ليس غير, لم تكن لها حياة اجتماعية تذكر: وكنت أسمعه يتحدث بالتليفون ولا أعلق أو أفتح فمي بكلمة مهما كان الحديث من الأهمية والخطورة, والدوسيهات ترسل فأضعها علي الترابيزة بجانبه قبل حضوره. وأثناء وجوده في حجرته ترسل مذكرات يقرؤها ويعطي تعليمات بالتليفون أو يكتب مذكرات ترسل للسكرتارية والجرائد العالمية ترسل كل يوم ويقرؤها.. وكنت أظل أياما لا أجد وقتا أتحدث فيه معه إلا تحيته لي التي لا ينساها أبدا حتي إذا تكرر دخولي الحجرة عدة مرات. وهي لم تتكلم معه في السياسة إلا إذا تكلم هو: وفي مرة قلت له أنا لا أتحدث إلا عن أشياء عادية ربما تضايقك, فقال لي تكلمي كما أنت هذا يعجبني ولا يضايقني. كانت يوغوسلافيا أول مدينة ترافقه فيها إلي الخارج, وأثناء الاستقبال الرسمي: كان يلتفت إلي ويقول لي هامسا أن أقف أو أتقدم بضع خطوات حتي لا أغلط, ومشيت بتوجيهه ولم أرتبك. وفي المساء ونحن بمفردنا قال لي: لقد قلت لك سلمي علي رئيس الجمهورية فوجدتك صافحت المترودوتيل أولا, وضحك جدا وضحكت وقلت: سوف لا أغلط مرة ثانية. إنه كتاب ممتع تضعه زوجة عبد الناصر عن مجرد حياتها معه مما يجعله تجسيدا إنسانيا لها وللرجل الذي قاد مرة وإلي الأبد انقلابا علي البنية السياسية والاجتماعية لوطنه وأقلق قوي الاستعمار وعاون دعاة التحرر في كل مكان وأصبح تجسيدا لكبرياء وطنه بكل طموحاته وانكساراته, وهو القائد الذي لا نعرف كيف نراه إلا بين أنداد من مقام نهرو ونكروما وشواين لاي وكاسترو وسكوتوري وجيفارا وأنديرا غاندي وخروشوف وإيدن والآخرين, هذا الذي أقلق الدنيا من حوله سيتاح لك أن تلمحه عبر هذه الصفحات وهو يطل علي الأولاد في غرفهم ويراجع شهاداتهم الشهرية ويكافئهم. وسوف تراه وبعد انتهاء حفل زفاف هدي عام1965 عند مغادرتها البيت: صافحها الرئيس وقبلها وبكي, وعندما صعدنا للدور الثاني دخل حجرته متأثرا وقال.. لقد تركتنا هدي. لا يبقي إلا أن نذكر كيف أن عبد الناصر أهدي من رؤساء وملوك أغلبهم عرب عربات وطائرة ومركبا وفرسا سلمها كلها للدولة. لم يترك بعد رحيله إلا العربة الأوستن السوداء: وقد ظلت باسمه في قلم المرور, وقيل لي انها ستوضع في متحف للقوات المسلحة. لا يجسر أحد أن يدعي بغير ذلك. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان