مع الأسف, لم تحقق جلسات الحوار, سواء المتعلقة بالوفاق الوطني علي إمكان تحقيق رؤية موحدة تصلح فلسفة للدستور الجديد, الذي تنشده مصر بعد ثورة25 يناير التي يديرها د. يحيي الجمل, أو الجلسات الأخري التي يديرها رئيس الوزراء الأسبق د. عبدالعزيز حجازي حول تحديات المرحلة الانتقالية وصولا الي ديمقراطية مكتملة النجاح المنشود! ويعود السبب الأغلب في الحالتين الي نوع من الشغب المنظم من جانب بعض الحضور الذين يعتبرون أنفسهم شباب الثورة الجديدة أو ينتمون الي جماعات الإسلام السياسي, استهدف إقصاء جماعة أخري من الحضور الذين انشغلوا بالعمل السياسي والحزبي في ظل حكم الرئيس السابق, ولم يتورطوا في أي عمل مشين قبل أن يمتد الشغب ليطالب بإبعاد مقرري دائرتي الحوار الجمل وحجازي, لكن ما حدث لا ينتقص من خطورة وأهمية الموضوعات التي تم عرضها في دائرتي الحوار اللتين لم نفهم بعد, لماذا لم تكتملا في دائرة حوار واحدة يمليها تشابك موضوعات الحوار ووحدتهما؟! ولعل الملاحظة الأخري الجديرة بالاهتمام, هي فتور حماس الحضور في دائرتي الحوار الذين قلت أعدادهما بشكل ملحوظ, ربما لأن السؤال عن جدوي هذه الحوارات ظل بلا جواب واضح وصحيح في ظل استئثار المجلس الأعلي للقوات المسلحة ومجلس الوزراء باستصدار قوانين جديدة تتعلق بممارسة الحقوق السياسية وتنظيم عمل الأحزاب ومشروعية الاحتجاجات الفئوية لم تعرض للنقاش العام, وكان يمكن تلافي بعض عيوبها المحدودة قبل أن تتحول الي قوانين نافذة المفعول, لكن يبدو أن القائمين علي الأمر رأوا في اشراك بعض القانونيين الذين ينتمون الي جزء من ثورة52 يناير ما يغني عن اشراك الجميع!.. وأيا كانت الدوافع الظاهرة والخفية وراء هذا المسلك الذي لا يتوافق مع القصد الديمقراطي الواضح والمباشر, فالأمر المؤكد أن الحيرة تستبد بجميع المصريين أو غالبيتهم بسبب الإصرار علي ضرورة أن تسبق الانتخابات البرلمانية الانتخابات الرئاسية, وأن يتأخر إصدار الدستور الي ما بعد انتخاب مجلسي الشعب والشوري, برغم أن الدستور هو الأداة المنظمة لصلاحيات هذه السلطات, وبسبب عدم وضوح الأسباب التي من أجلها نخرج عن السياق الطبيعي والمنطقي للأحداث لمجرد الرغبة في اختصار المرحلة الانتقالية إلي حدها الأدني, برغم عدم جاهزية الأمن لمواجهة أعباء معركة انتخابية صعبة, تشهد منافسة محتدمة بين القوي السياسية المتصارعة قديمها وحديثها, قد لا يتورع بعضها عن استخدام كل الأدوات, بما في ذلك العنف والمال وكل صور البلطجة والخلط بين شعارات الدعوة الدينية والتحريض السياسي لتحقيق فوز ساحق علي منافسيه! ولأن ساحة الحوار مفتوحة علي مصاريعها لا يحدها جدران القاعات المغلقة التي أصبح يسودها نوع من الإرهاب الفكري المنظم من جانب جماعات بعينها, تعتقد أنها وحدها تحتكر الحقيقة وتحتكر الحديث باسم الثورة, يصبح الحديث عن إمكان تحقيق وفاق وطني حول رؤية موحدة لفلسفة الدستور الجديد أو أي من موضوعات الحوار الأخري جزءا من مسئولية كل مثقف يعهد في نفسه القدرة علي صدق القول وصراحته, لأن الأمر جد لا هزل فيه, ولأن خلافات الرؤي تجلي صورة الحقيقة, ولأننا نريد حقا دستورا جديدا ينير الطريق وينهي الي الأبد عصر الفراعين, ويجعل من الأمة بالفعل مصدر كل السلطات, ويستخلص الدروس الصحيحة من تراث دستوري يكاد يصل عمره الي قرنين من الزمان, منذ نشأت أول وثيقة دستورية مصرية علي عهد شوري النواب عام2881 الي الإعلان الدستوري الأخير الذي ظهر في نهاية مارس1102 مرورا بدساتير عديدة يحفل معظمها بنصوص تمت صياغتها وفق أحدث النظم الدستورية في العالم, كما حدث في دستور32 التي لاتزال معظم بنوده يتم تداولها نصا في أغلب الدساتير المصرية التي صدرت بعد هذا التاريخ, لكن البون كان دائما شاسعا بين الدستور كنص قانوني وواقعه علي أرض الوطن, لان المفارقة بين الفعل والقول كانت جزءا من آفة السياسة المصرية منذ نشأة الدولة الحديثة في مصر, فالأهم من الدستور إذن هي ضمانات حراسته والالتزام بتطبيق بنوده والامتناع عن خرق أحكامه بالعودة الي قوانين ولوائح تبيد أثر النص الدستوري وتفرغه من مضمونه. ولا أظن أننا سوف نخترع العجلة من جديد في ظل هذا النقاش المفتوح علي مصاريعه, نستطيع أن نلمح في رحابته خارج جدران القاعات المغلقة توافقا وطنيا واسعا يصل الي حد الإجماع علي حقائق أساسية تكاد تصبح جزءا من ضمير مصر الوطني, فنحن متفقون جميعا كمصريين, أو هكذا أخال, علي ضرورة تقليص سلطات رئيس الجمهورية خاصة ما يتعلق منها بسلطاته الاستثنائية الواسعة, وعلي أهمية الحفاظ علي مقومات النظام الجمهوري بما يحول دون استنساخ هذا الهجين المشترك بين النظامين الملكي والجمهوري لتكريس عرش الفرعون وتعزيز امتيازاته وترسيخ استبداده, لكثرة ما يملك من سلطات ترفع من يشاء بغير حساب, وتوجد حوله مجموعات من السدنة والكهان تغريه علي فجور الفعل وتعزله عن شعبه, ونحن متفقون علي ضرورة كفالة الاستقلال الحقيقي للقضاء, وعدم جواز أن يرأس رأس السلطة التنفيذية اجتماعات المجلس الأعلي للقضاء ولو كانت مجرد رئاسة شرفية, ونقل سلطة التفتيش القضائي الي المجلس الأعلي للقضاء, بديلا عن وزارة العدل, وإنهاء كل صور المحاكمات الاستثنائية بحيث يمثل المتهم أمام قاضيه الطبيعي, وقصر القضاء العسكري علي العسكريين وحدهم, أو العاملين في القوات المسلحة, وعدم جواز عزل القضاة أو اشتغالهم بالعمل السياسي. وأظن أن هناك إجماعا وطنيا قويا علي ضرورة تداول السلطة في جميع المستويات, ابتداء من رئيس الجمهورية الذي لا يجوز إعادة انتخابه لأكثر من فترتين, وكذلك المحافظون, وتغيير مفهوم الحكومة بحيث تصبح خادما للشعب ولست سيدا له, تخضع في كل مستوياتها للمساءلة والحساب, ويضمن تجديد دمائها تنظيم إداري مرن في تفويض السلطات يرتب مسئوليات القيادات الوسيطة, وصولا الي الصف الثاني كما أننا متفقون علي تعزيز سلطة المجالس النيابية بما يوازن بين السلطات, ويفصل بين السلطة والثروة, ويسأل علي نحو دوري منتظم جميع المسئولين عن مصادر ثرواتهم أمام البرلمان, ويجرم أي تربح لأي منهم يكون مصدره شراء أو استئجار شيء من أملاك الحكومة بطريق مباشر أو غير مباشر, ويعتبر ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم, يسائل عنها كل من يتستر علي هذا الفعل أو يمتنع عن الابلاغ عنه أو يخفيه, ومن المؤكد أننا متفقون قبل ذلك كله علي أن مصر دولة مدنية ديمقراطية قانونية تعلي حقوق الإنسان ويتساوي فيها جميع حقوق المواطنة, ترفض كل صور التمييز السلبي وتعتبرها جريمة ضد الدستور والقانون. هذا هو حدود الإجماع الوطني الذي يصعب أن نجد خلافا حوله, لكن غالبيتنا العظمي تريد نظاما يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني, تتوسع فيه نطاق صلاحيات رئيس الوزراء ومسئوليته, بما يجعله شريكا مسئولا عن قرارات السلطة التنفيذية وليس مجرد سكرتير لرئيس الجمهورية, وتريد تعديل النظام الانتخابي بحيث يجمع بين الانتخاب الفردي والقائمة النسبية لضمان تمثيل عادل للشباب والمرأة والأقباط يغني عن نظام الحصص, وتريد مناقشة حرة لقضية تمثيل العمال والفلاحين تضمن صدق التمثيل أو تلغيه, وأظن أن غالبية المصريين تتوافق أيضا علي أن النظام الاقتصادي الأمثل الذي يستطيع استثمار الموقع العبقري والمكانة الدولية والإقليمية لمصر هو الاقتصاد الحر الذي ينهض علي تشجيع الاستثمارات واتاحة الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة في جهود التنمية دون سقف أو حدود للقطاع الخاص, والحرص علي تحقيق نسب عالية من الاكتفاء الذاتي في سلع استراتيجية وأساسية مثل الغذاء والدواء والطاقة ومواد البناء مع الالتزام بتوزيع عادل لثمار التنمية من خلال تقليص الفجوة الواسعة بين الدخول وتحقيق نظام ضريبي عادل. وربما يكون ضروريا للدستور الجديد, أن يعني في مقدمته بحقوق الإنسان المصري باعتباره مصدر الشرعية وصانع التنمية وهدف التقدم وصاحب الحق الأصيل في أن يكون السيد في وطنه تعمل الحكومة في خدمته وتجتهد لتحسين جودة حياته, بعد أن استعاد بثورته الشعبية ملكية وطنه وكسر حاجز الخوف الذي جعله يشعر بالدونية والاغتراب والخوف من التعامل مع جميع أجهزة السلطة, وتجنب الاشتباك معها قدر الإمكان حفاظا علي كرامته حتي لو أدي ذلك الي إهدار حقوقه, لكن إيجاز حقوق الإنسان المصري في مقدمة الدستور أو في مبناه لا يغني عن ضرورة اصدار إعلان سياسي تاريخي بحقوق الإنسان المصري يوقع عليه المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومة الثورة وجميع منظمات المجتمع المدني ذات الصلة, يضمن للإنسان المصري الكرامة والمساواة أمام القانون كما يضمن حقه في تعليم جيد وخدمة صحية لائقة ومسكن ملائم, يجرم التعذيب ويجتث جذوره, ويطلق حق بناء دور العبادة وفقا لاحتياجات السكان, شريطة أن تشارك كل دور العبادة, المسجد والكنيسة في تقديم خدمات الرعاية الصحية والتعليم والنظافة لكل المواطنين, متعاونة في الأحياء المشتركة, ويؤكد كفالة جميع الحقوق التي تنظمها المواثيق العالمية لحقوق الإنسان بما في ذلك حقه في حرية التعبير والمعرفة والخبر الصحيح والاتصال وتداول المعلومات وتدفقها والاطلاع علي وثائق الدولة متي جاوز عمرها حدود السرية المفروضة, كما ينص إعلان حقوق الإنسان المصري علي اعتبار التمييز السلبي في تقلد الوظائف العامة بسبب الجنس أو اللون أو الدين جريمة يعاقب عليها القانون, ويكفل حق التظاهر السلمي ويجدد أماكنه المختارة مراعاة لأوضاع الزحام السكاني, وينظم الإجراءات المدنية والدينية لكفالة حرية الاعتقاد الديني بما يحول دون أن تتحول حرية الاعتقاد الي فتنة طائفية. المزيد من مقالات مكرم محمد أحمد