نستكمل اليوم ماكنا بدأناه من إبراز الهدي النبوي في التعامل مع الآخر, خاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الاجتهادات المتسرعة والأفكار المتشددة في الداخل والخارج, وملاذنا في ذلك الفهم عن الله ورسوله. لقد أقام الإسلام دولته وجعل قاعدتها الأولي أمن المجتمع واستقراره, إذ هو مناط الإنتاج والتقدم وبناء الحضارة, فبغير الأمن لن يوجد المجتمع أصلا. وإذا وجد تحول أبناؤه إلي شراذم متقاتلة, ولذا بدأ الخليل إبراهيم عليه السلام في دعائه لبلده بتحقيق الأمن قبل العقيدة فقال:( رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)( إبراهيم:35), لقد قدم الأمن علي الإيمان وعظم قيمته, وأكد هذه القيمة العظمي في حياة الأمم والشعوب. وقدمه كذلك علي الرزق, فقال تعالي:( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات)( البقرة:126), بل قدم رسول الله صلي الله عليه وسلم أمن الانسان علي صحته وغذائه فقال: من أصبح منكم آمنا في سربه, معا في في جسده, عنده قوت يومه, فكالما حيزت له الدنيا بجذافيرها( سنن الترمذي 4/574). وفي المقابل حارب الإسلام التخريب والإفساد في الأرض وترويع الآمنين سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين باعتباره ظلما واعتداء علي حق الفرد والمجتمع, وكل ذلك محرم بإجماع المال والشرائع السماوية, يقول النبي صلي الله عليه وسلم:( كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضة)( أخرجه مسلم1986/4). ولأهميه قيمة الأمن فرض الشرع حدا رادعا لكل من توسوس له نفسه الخروج علي المجتمع وترويع أهله وتخريب ممتلكاته, فقال سبحانه:( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)( المائدة:33). وقد رسخ الرسول صلي الله عليه وسلم مبدأ الأمن والأمان حين عقد وثيقة المدينة بين أهل العقائد والطوائف المختلفة من قاطني المدينةالمنورة, فقال:وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وفي هذا دلالة علي تأكيد الأمن والأمان وتعميق تلك القيمة وتعظيمها في نفوس جميع أفراد المجتمع وطوائفه, دون إفراط أو تفريط. كما خص النبي صلي الله عليه وسلم أهل الفضل والتقوي في هذه الوثيقة بالتكليف والتشريف ليكونوا يدا واحدة في وجه كل من يسعي إلي ضرب وحدة الصف وتمزيق عري أمن الوطن فقال: وإن المؤمنين المتقين أيديهم علي كل من بغي وابتغي منهم دسيعة أي دفع ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا, ولو كان ولد أحدهم( السيرة النبوية3/33), وفي هذا دعوة للأمة إلي وحدة الصف والتماسك في مواجهة من يقومون بالتخريب ونشر الخوف والفوضي والانفلات الأمني وضرب استقرار المجتمع الآمن. وقد طبق الرسول صلي الله عليه وسلم ماأكده في وثيقة المدينة من الحفاظ علي أمن المجتمع واستقراره والأخذ علي يد الخارجين علي قانون المدينة الأولي ودستورها, حيث كان في المدينة فئة من المنافقين الذين كانوا يمثلون أكبر معارضة سياسية ودينية في المدينة, وكانوا كذلك يتآمرون علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه ليل نهار, في أوقات السلم الحرب, إلا ان رسول الله أثر في معاملته معهم الحلم والصبر, مع الحذر والحيطة وعدم الغفلة عنهم. ومن أمثلة صبر النبي صلي الله عليه وسلم علي أذي المنافقين وعدم إيقاع العقوبة بهم, رغم كفرهم وردتهم وماأتوا به من دسائس وخيانات, من أمثله ذلك صبره علي مربع بن قيظي الذي رفض مرور رسول الله صلي الله عليه وسلم في حائطه ورسول الله عامد إلي أحد وقال: لا أحل لك يامحمد إن كنت نبيا, ان تمر في حائطي, وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به, فابتدره القوم ليقتلوه, فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: دعوه فهذا الأعمي, أعمي القلب, أعمي البصيرة( الروض الأن381/2), ولنضرب مثالا آخر مارس فيه المنافقون الوقيعة بين أبناء الوطن الواحد وحاولوا غرس بذور الفتنة والفرقة بينهم, وهو ماورد في أعقاب غزوة بني المصطلق, حين ازدحم رجلان علي سقي الماء, أحدهما جهني والآخر أنصاري, فاقتتلا, وقال الأنصاري: يا للأنصار, وقال الجهني: ياللمهاجرين, فقال عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين للأنصار: ألا تنصروا أخاكم؟ والله مامثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل:( سمن كلبك يأكلك): وقال:( لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)( المنافقون:8), فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنق هذا المنافق يارسول الله, فقال النبي صلي الله عليه وسلم: دعه لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه( البخاري4/1861), لقد اعتدي ذلك المنافق علي المجتمع بكل أبنائه, وساهم في انتشار الذعر والفوضي اللذين ينخران جسد أي مجتمع, ويساعدان علي انهيار المقومات الأمنية والسياسية والاقتصادية, وهي الأسس التي تقوم عليها الدولة ويستقر بها المجتمع في كل زمان ومكان, ورغم ذلك فقد راعي النبي صلي الله عليه وسلم فقه الأولويات وترتيب المصالح, ورأي وعلمنا في الوقت ذاته أن الحفاظ علي الوطن أهم من أي أمر يمكن تداركه والصبر عليه مااستطعنا إلي ذلك سبيلا, ومن ثم كان حض الإسلام علي الوحدة وتماسك الصف, فقال تعالي: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)( ال عمران:103), وبالمقابل نهي عن الفرقة والتنازع, فقال عز وجل( ولاتنازعو فتفشلوا وتذهب ريحكم)( لانفال:46) وما ذلك إلا التحقيق الأمن والأمان واستقرار المجتمع, ليكون مجتمعا نافعا لنفسه, ومفيدا لأبنائه, وذخرا لأجياله, وداعيا غيره إلي المباديء والقيم مصداقا لقوله سبحانه:( كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)( ال عمران:110).