صوت بريطانيا العالي وتحركاتها الدبلوماسية والعسكرية المحمومة منذ بدء الأزمة الليبية لم يشغل مخططي السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط عن ورطة بلادهم مع مصر الجديدة. يبحث البريطانيون عن وسيلة لفتح صفحة جديدة مع الشعب المصري بعد الثورة تنسيه آثار علاقات بريطانيا القوية مع النظام السابق. بداية البحث عن مخرج من الورطة اعترافان أحدهما علني بالجرم البريطاني في حق الشعب المصري وغيره من الشعوب العربية. الاعتراف الأول جاء في الثاني من مارس واعتبر الماضي مجرد خطأ رغم كل ما ترتب عليه من نتائج. وقالت الخارجية البريطانية رسميا كان من الخطأ دعمنا لأنظمة قمعية وغير ديمقراطية أملا بأن يكون في ذلك خدمة أفضل لمصالحنا, وأشار المتحدث باسم الخارجية في بيان علني إلي أن حرمان الشعب( العربي عموما) من حقوقه الأساسية لا يحفظ الاستقرار بل يؤدي إلي العكس'. ووصل البيان حد الاعتراف بعمالة حكام عرب للغرب. وقال إنه في الأيام الماضية' كانت مكالمة واحدة من واشنطن أو لندن أو باريس تكفي لإنصياع دكتاتوريين مأجورين في المنطقة'. بريطانيا والتوريث الاعتراف الثاني جاء في الثالث والعشرين من الشهر نفسه. وفي لقاء غير معلن مع عدد من ممثلي التجمعات العربية في المملكة المتحدة أقر أليستربيرت وزير شئون الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية بورطة بريطانيا. وقال إن أضرارا هائلة لحقت بالعلاقات بين بريطانيا والشعوب العربية خلال العقود الماضية'. وأضاف إلي إقراره اعترافا آخر بأن' إصلاح هذه الأضرار يحتاج إلي جهد كبير, ولوح الوزير بالمساعدة البريطانية في مشروعات بمختلف المجالات لخدمة الشعوب العربية'. وهنا يبدو أن بريطانيا تراهن علي نسيان الشعب المصري للمساندة البريطانية لنظام مبارك السابق. وهي مساندة لايستطيع أن ينكرها السياسيون البريطانيون الذين كانوا يأملون في أن يخلف جمال مبارك أبيه. فعلي هامش ذكري أزمة السويس قبل سنوات التقي سفير بريطانيا في مصر الذي جاء من القاهرة للمشاركة في إحياء الذكري في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن مع عدد من ممثلي وسائل الإعلام العربية العرب بينها الأهرام في لندن. وسئل السفير عن رأيه في مخاوف المعارضة المصرية في ذلك الوقت من محاولات مبارك تجهيز ابنه لوراثته. فأشاد السفير بجمال واعتبره يحمل مقومات للقيادة ونصحه بالتركيز علي ملف الاقتصاد والاقتراب من الناس. سعت لندن لطي هذه الصفحة. فحرص ديفيد كامرون رئيس وزراء بريطانيا علي أن يكون أول زعيم غربي يزور مصر( في الحادي والعشرين من فبراير الماضي) بعد ثورة يناير. ورغم المبالغة الرسمية في أهمية الزيارة ومحاولة الإيحاء بأنها دعم بريطانيا للثورة فإن علامات الاستفهام التي أثيرت في بريطانيا في أثناء الزيارة وبعدها لا تزال قائمة. فرئيس الوزراء اصطحب عددا من ممثلي شركات السلاح البريطانية التي كانت تورد بمباركة وترخيص الحكومات البريطانية المتعاقبة أدوات القمع للأنظمة العربية بما فيها نظام مبارك. ما لم يقله كامرون ومالم يقله كامرون دفاعا عن ذلك خلال جولته في مصر والمنطقة قيل هنا في بريطانيا. ففي مقابل انتقادات برلمانية حادة لسجل بريطانيا في تصدير الأسلحة إلي دول الشرق الأوسط وعلمها بأغراض استخدام هذه الأسلحة كانت مؤسسة صناعات الدفاع والفضاء والأمن( أيه آي إس) وهي جماعة الضغط المدافعة عن مصالح شركات السلاح صريحة علي غير العادة. وعلنا قال ورد إيان جودن رئيس المؤسسة إن هذه الصناعة توفر أكثر من300 ألف فرصة عمل في أنحاء البلاد وتدر35 مليار جنيه استرليني سنويا علي الاقتصاد البريطاني, وعندما سئل بيرت خلال لقائه بممثلي التجمعات العربية عن مرافقة ممثلي شركات السلاح البريطانيين لكاميرون قال إن' المشاركة في الوفد المرافق بطلب من هذه الشركات, ولم يقتنع الحاضرون بهذا الرد.. معضلة أموال مصر في بريطانيا عقبة أخري في طريق كسب بريطانيا معركة الفوز بعقل وقلب مصر الثورة. ثورة مصر وانتفاضة ليبيا دبلوماسيون ومسئولون بريطانيون حاولوا في نقاشات متكررة مع الأهرام شرح موقف حكومتهم الذي يبدو للمصريين غريبا ولا يتفق مع تعهداتها بإنصاف الثورة ومساعدتها في إعادة بناء الاقتصاد والمؤسسات. سند هؤلاء المسئولين هو القانون البريطاني والأوروبي الذي يمنع تجميد أو مصادرة أي أموال أو ممتلكات أو أرصدة أو حسابات بدون سند قضائي قاطع, يؤكد بوضوح أن مصدر هذه الأموال هو الفساد واستغلال المال العام. وعندما سئل هؤلاء المسئولون عن سبب تحرك بريطانيا السريع لتجميد أموال المسئولين والمؤسسات الليبية والبطء في تجميد أموال المسئولين المصريين بعد الثورة أرجعوا الفضل لعنف القذافي. وقال مسئول بالخارجية البريطانية ل الأهرام: القذافي استخدام القوة ضد شعبه مما أدي إلي تحرك سريع في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار بتجميد أرصدة ليبيا. أما في حالة مصر فكان موقف النظام مختلفا وجري التعامل مع الملف المصري عبر الاتحاد الأوروبي وهو ما استغرق وقتا'. وحاول المسئولون البريطانيون الترويج لانطباع بأنه لولا الضغط البريطاني( مع تأخره) فإنه ما كان لمذكرة العقوبات المالية التي فرضت تجميد أرصدة19 شخصية مصرية من بينها مبارك وعائلته لتصدر غير أنه مالم يستطع المسئولون البريطانيون تفسيره هو: لماذا تسكت حكومتهم عن الإعلان عن أموال وممتلكات المسئولين المصريين المجمدة منذ تطبيق المذكرة في حين أن رئيس وزرائهم شخصيا أعلن عن تجميد ممتلكات وأصول المسئولين والمؤسسات الليبية. أما فيما يتعلق بالأموال التي من المحتمل أن تكون قد نقلت من بريطانيا إلي مناطق آمنة أخري منذ بدء ثورة يناير22 وحتي مارس فإن البريطانيين يقولون إنهم' يشعرون بالأسف لخيبة الأمل التي يشعر بها المصريون لضياع هذه الأموال لكنه لم يكن بوسعهم أن يفعلوا شيئا'. واقع علي مصر الثورة أن تقبله رغم مرارته. ويقر البريطانيون بأنه يضعهم في ورطة التغلب عليها ليس سهلا ويحتاج إلي الكثير لاقناع الثوار بامكانية نسيان سجل بريطانيا مع مصر قبل الثورة.