شهدت مصر خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وتحديدا منذ انفجار الثورة المصرية الكبري ضد نظام مبارك, موجة هائلة من البناء علي الأراضي الزراعية بالمخالفة للقانون, في ظل الانفلات الأمني الذي صنعه نظام الديكتاتور المخلوع مبارك وحزبه الوطني الذي صار هو وقياداته عنوانا للفساد السياسي ونهب المال العام والاستيلاء علي أراضي الدولة وتبديد ما بنته الحكومات والأجيال السابقة. من خلال برنامج الخصخصة الفاسد كلية, بحيث حق عليه الحل, ويحق علي قياداته الفاسدة الحرمان الدائم أو المؤقت من المشاركة في الحياة السياسية التي صادروها وأفسدوها لأكثر من ثلاثة عقود. وهناك مواطنون لم يقوموا بالبناء المخالف, ولا ينبغي معاقبتهم لاحترامهم للقانون, بل ينبغي أن يكون لديهم حقوق متساوية من خالفوا القانون, بحيث تطبق قواعد واحدة عليهم, إما بالسماح بالبناء بنسب تطبق علي الجميع, أو إزالة التعديات علي الأراضي, بحيث تكون هناك مساواة حقيقية في هذا الشأن. ورغم أن هذه الموجة من البناء قد حدثت في ظل غياب الدولة وبمشاركة وربما بتحريض من المجالس المحلية التي تضم في غالبيتها الساحقة عناصر حزب الفساد الحاكم سابقا والتي جاءت بانتخابات مزورة شأن كل ما كان يجري من انتخابات في عهد مبارك وتستحق الحل بدورها, والتي ساعدت هي وبعض جهات الحكومة علي عمليات الاعتداء علي الأراضي الزراعية من خلال مد المباني المخالفة بالكهرباء وبعدادات مؤقتة, إلا أن ذلك لا ينفي أن هناك قضية حقيقية تتمثل في حاجة أبناء الريف المصري للتوسع العمراني لاستيعاب الزيادة السكانية في المحافظات الريفية وبالذات التي لا توجد لها أية منافذ علي الصحراء. وهذه القضية المحورية في حياة الفلاحين, لم تتعامل معها الحكومات المتعاقبة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتي الآن بأي درجة من الجدية أو التخطيط لحلها بصورة أخلاقية وإنسانية واقتصادية, تساعد علي توفير مساكن لائقة وملائمة للأعداد المتزايدة من أبناء الريف المصري الذي يسكنه نحو57% من سكان مصر, والحفاظ في الوقت نفسه علي الأرض الزراعية في وادي النيل ودلتاه وهي من أخصب وأعمق الأراضي الزراعية في العالم بأسره, وفقدانها بالبناء يعني فقدان جوهرة حقيقية لا يمكن تعويضها مطلقا. ولإدراك حجم المأساة التي تسبب فيها غياب الاستراتيجية الحكومية لمعالجة قضية إسكان أبناء الريف المصري, يكفي أن نعلم أن البناء علي الأراضي الزراعية في مصر قد التهم خلال الخمسة وثلاثين عاما الأخيرة ما يتراوح بين1.5, و2 مليون فدان من أخصب أراضي مصر والعالم في وادي النيل ودلتاه, وهي أراضي لا يمكن أن تعوضها المساحات المستصلحة في الصحراء والتي تقل كثيرا في نوعيتها عن الأراضي القديمة. وكانت حكومات مبارك المتعاقبة قد اكتفت بإحالة المخالفين للقانون الذي يحمي الأراضي الزراعية إلي القضاء, ثم سحب القضايا أثناء الانتخابات البرلمانية أو الاستفتاءات الرئاسية كرشوة للناخبين الفلاحين, ولم تكترث أصلا لوجود قضية تتعلق بتوفير المساكن للأجيال الجديدة من أبناء الريف دون الاعتداء علي الأراضي الزراعية. وقانون تجريم البناء علي الأراضي الزراعية يعني عمليا حرمان الأجيال الجديدة من أبناء الريف المصري من حق السكن, خاصة وأنه لا توجد أنشطة صناعية وخدمية وزراعية تستوعبهم بصورة فعالة خارج محافظاتهم الريفية. وبالتالي فإنه لابد من التفكير بشكل منفتح لمعالجة هذه المعضلة لضمان حق السكن لأبناء الريف, والحفاظ في الوقت نفسه علي الأراضي الزراعية المصرية القديمة التي كونها طمي النيل كطبقة غنية وبالغة العمق الذي يصل إلي17 مترا في بعض الأحيان والذي يفوق الطبقات المناظرة في أحواض الأنهار الأخري في مختلف بلدان العالم. والحقيقة أن حل هذه القضية الاقتصادية- الاجتماعية, يمكن أن يتم من خلال عدة مسارات: الأول أن تقوم الدولة بإنشاء مساكن شعبية ومتوسطة المستوي بارتفاعات عالية نسبيا وعدد أدوار أكثر من المعتاد في الوادي والدلتا وتهيئة البنية الأساسية وبالذات محطات المياه لتتوافق مع هذه الارتفاعات, وذلك لتقليل التوسع الأفقي وتحجيم الاعتداء علي الأرض الزراعية, والاعتماد علي التوسع الرأسي في توفير المساكن للأجيال الجديدة من أبناء الريف. مع ضرورة أن يكون تصميم تلك المساكن ملائما لاحتياجات وأنماط معيشة أبناء الريف, وأن تكون أسعارها مرتبطة بالتكاليف الفعلية, بحيث تكون ملائمة للقدرات المالية لأبناء الريف الفقير, وأن يكون هناك تقسيط طويل الأجل لأسعار هذه المساكن. وهذا يعني أن الدولة يجب أن تقوم بهذا الدور بغرض حماية الأراضي الزراعية وليس بغرض تحقيق الأرباح, وسيكون عليها أن تلتزم بالمعايير الاقتصادية المتعلقة بتحقيق التوازن المالي وتعويض الإهلاكات وضمان استمرار عمل شركاتها العاملة في هذا المجال, حتي لا نفتح بابا جديدا لعجز الموازنة العامة للدولة, ويمكن تحويل قسم من مخصصات دعم إسكان محدودي الدخل لبرنامج البناء الرأسي في الريف, بدلا من تبديد تلك المخصصات بصورة فاسدة بدفعها لكبار الرأسماليين الذين حصلوا علي الأراضي المرفقة في المدن الجديدة بسعر70 جنيها للمتر وحصلوا علي منح لا ترد قيمتها15 ألف جنيه عن كل وحدة مساحتها63 مترا, وبدلا من بيعها بسعر عادل يتراوح بين40, و45 ألف جنيه ويتضمن ربحا جيدا, باعوها بضعفي أو ثلاثة أضعاف هذا السعر العادل واستغلوا الشعب مرتين الأولي بالحصول علي أرضه ب5% من سعرها في السوق, والثانية بالحصول علي منح لا ترد من المال العام المملوك للشعب, والثالثة ببيع المساكن له بأسعار احتكارية مبالغ فيها ولا علاقة لها بالتكلفة الحقيقية. أما المسار الثاني لمعالجة قضية البناء علي الأراضي الزراعية بصورة توفق بين حقوق واحتياجات أبناء الريف للسكن, وبين ضرورة الحفاظ علي أخصب الأراضي الزراعية في مصر, فإنه يتلخص في ضرورة قيام الدولة بعمل امتدادات تنموية صناعية وزراعية وخدمية وعمرانية في المناطق الصحراوية المتاخمة لمحافظات وادي النيل في مصر الوسطي والعليا, وفي المحافظات المتاخمة للصحراء في الوجه البحري لجذب الكتل السكانية من الأجيال الجديدة في تلك المحافظات إلي تلك المناطق الصحراوية الجديدة. ويمكن للدولة أن تستعيد الأراضي المستصلحة التي نهبها بعض كبار الرأسماليين والسياسيين الفاسدين بصورة خارجة علي القانون, سواء من زاوية السعر أو من زاوية تغيير النشاط المخصصة له, أو الاتجار غير المشروع فيها, وأن تعيد توزيع هذه الأرض علي الفلاحين المعدمين وخريجي المدارس والكليات الزراعية من أبناء الريف بما يضمن انتقالهم واستقرارهم خارج محافظاتهم الزراعية القديمة, بما يقلل الطلب علي المساكن في الوادي والدلتا, ويخفف الضغوط الرامية لتحويل جزء من الأراضي الزراعية إلي مناطق عمرانية فيهما. وفي هذا الإطار أيضا, فإن التصورات المطروحة حول الامتداد العمراني والتنموي منه محافظات الوادي والدلتا المتاخمة للصحراء يمكن أن تكون ملائمة وأقل كلفة في الوقت الحالي لتحقيق هذا المسار. وحتي مشروع ممر التنمية في قلب الصحراء, فإنه رغم تكاليفه المرتفعة, والمدي الزمني الأطول لتنفيذه وتحويله إلي منطقة جاذبة للسكان بصورة دائمة, إلا أنه يبقي حلا استراتيجيا ممكنا علي ضوء ما ستتوافق النخبة والأمة عليه في هذا الشأن. أما المسار الثالث فيتمثل في جذب أبناء المحافظات الريفية غير المتاخمة للصحراء مثل الغربية وكفر الشيخ ودمياط والدقهلية, للعمل في مناطق التنمية الزراعية والعمرانية الجديدة التي يتم إنشاؤها في الصحراء بكل ما تتضمنه من مشروعات صناعية وزراعية وخدمية, من خلال تمليكهم لأراض مستصلحة فيها, وتمويل مشروعات صغيرة وتعاونية لهم في تلك المناطق. وعندما تنفذ الدولة هذه المسارات سيمكنها تطبيق القانون بصورة صارمة وعادلة لمنع تبديد الأراضي الزراعية القديمة التي تشكل ثروة عظمي لمصر ينبغي الحفاظ عليها كأساس للتنمية الزراعية. المزيد من مقالات أحمد السيد النجار