حين توالت الأنباء عن إحالة الرئيس السابق للتحقيق في التهم الجنائية والمالية الموجهة إليه, تذكرت مشهد آخر ملوك مصر يوقع وثيقة تنازله عن العرش مغادرا للبلاد, بينما يودعه نفر من قادة يوليو بصحبة السفير الأمريكي, وتذكرت سيلا من الاتهامات الشعبية التي طالته بدءا من سلوكه الشخصي إلي ذمته المالية إلي خيانته الوطنية, دون تقديمه إلي القضاء. وتذكرت كذلك إننا شهدنا ضباط يوليو بملابسهم العسكرية يتخذون سمت القضاة فيما عرف بمحاكم الثورة, يصدرون الأحكام بالسجن والإعدام علي الأعداء, وبطبيعة الحال فإن العالم لم يعترف قط بمشروعية تلك المحاكمات, بل وأصبحت الدول الأوروبية ملاذا للفارين السياسيين. بل ولمن لحق بهم من المتهمين في قضايا الفساد المالي. وتعذرت بالتالي محاولة استعادتهم أو حتي استعادة ما لديهم من أموال. تذكرت كل ذلك مقارنا إياه بما نشهده بعد ثورة52 يناير, فرغم ارتفاع صيحات عديدة تطالب المجلس الأعلي للقوات المسلحة بتشكيل محاكم ثورة, فإنه يحسب للمجلس مقاومته لذلك الإغراء رغم أنه يتفق مع طبيعته العسكرية, وانحاز إلي روح ثورة يناير التي كان ثوارها يطالبون ومازالوا بالحكم المدني. وبدأت النيابة العامة تحقيقاتها مع الرئيس السابق في تهم محددة وفي حضور محاميه بعيدا عن كاميرات التصوير شأن بقية دول العالم المتحضر. وطافت في النفوس مشاعر متضاربة, لقد كان مبارك ممن أسهموا في إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة يونيو76 وكان ممن شاركوا في تحقيق نصر أكتوبر37 حتي تم رفع العلم المصري في طابا, وكان ممن حافظوا علي وحدة التراب الوطني. كل هذا صحيح. ولكن السلطة قد أغوته فغوي, وأغرته القوة فاغتر, فكان من اتهامات مالية وجنائية يجري التحقيق فيها. ولعل الإنجاز الجديد الذي يمكن أن تضيفه ثورة يناير في هذا السياق, والذي لم تعرفه بلادنا في تاريخها قط منذ الفراعنة, وعرفته غيرنا من بلاد العالم الديمقراطي, هو أن إنجازات الحاكم مهما تكن قيمتها لا تعفيه من الخضوع للقضاء, كذلك فان التحقيق معه بل, وإدانته في تهم محددة مهما تبلغ لا ينبغي أن يطال ما تحقق في عهذه من إنجازات. إن الخطر الذي يتهدد ذلك الإنجاز الديمقراطي يتمثل في أن تدفعنا بشاعة جرائم النظام السابق وما سفكه من دماء قدمها شهداؤنا في أثناء ثورة يناير إلي نسيان إخوتهم شهداء في حرب أكتوبر, ومن ثم إلي التقليل من حجم انتصار دفعنا ثمنه دما وعرقا لمجرد أن مبارك كان من صناع هذا الانتصار. لقد بدأت النغمات القديمة تتصاعد من حولنا مرددة أن حرب أكتوبر المجيدة كانت حرب تحريك, وليست حرب تحرير. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلي مقال نشره أخيرا الصحفي الإسرائيلي الكندي باري خاميش بعنوان التليفزيون الإسرائيلي الحكومي يكشف أخيرا مؤامرة دايان كيسنجر أورد فيه أنه في التاسعة من مساء الخميس السابع من أبريل1102 أي في الوقت الذي كان ثوار يناير يعدون فيه مليونيتهم للمطالبة بمحاكمة مبارك عرضت القناة الأولي من التليفزيون الإسرائيلي المملوكة للحكومة فيلما تسجيليا طويلا بعنوان من قتل أبي؟ يزعم أن هنري كيسنجر وموشيه دايان قد قاما بما أطلق عليه الكاتب طبخ كارثة حرب يوم الكيبور بحيث يستطيع العرب كسب الحرب. ويدور الفيلم حول واقعة اغتيال الضابط الإسرائيلي جون ألون الملحق بسفارة إسرائيل بواشنطن في الأول من يوليو3791, محاولا إقامة الدليل علي أن الاغتيال من تدبير المخابرات الإسرائيلية بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية للتخلص من ألون للشك في قدرته علي احتفاظه بالسر حيث كان يعرف خطة دايان كسينجر حول تمكين العرب من نصر محدود تضحي فيه إسرائيل بمائة أو مائتين من جنودها مقابل قبول العرب بمفاوضات سلام. ويشير خاميش إلي أن تلك الطبخة قد كلفت إسرائيل دماء0002 جندي يهودي سقطوا في يومين, وأن الرئيس كارتر أجبر بيجن بعد ذلك علي تعيين دايان وزيرا للخارجية الذي استغل موقعه للضغط لتوقيع معاهدة سلام مع مصر استرد بها السادات كل بوصة من أرض سيناء التي أصبحت اليوم مرتعا لأنفاق حماس. وما يعنينا في تلك الرواية المركبة أنها تسعي للانتقاص من الانتصار الذي تحقق بحرب أكتوبر.3791 تري ألا يدفع ذلك بثوار يناير إلي التفكير في الإعداد لاحتفال بهيج شامخ بعيد انتصار6 أكتوبر لتتعانق أرواح شهداء3791 بأرواح أشقائهم وأبنائهم شهداء يناير1102, وأن يشهد الاحتفال تلك الصورة التقليدية لقادة الحرب المظفرة دون ذلك الإخفاء المشين لصورة الفريق الشاذلي رئيس الأركان ودون إخفاء أيضا لصورة مبارك قائد سلاح الطيران, خاصة أنه من المتوقع أن يجري ذلك الاحتفال ومصر تكون آنذاك علي أبواب دولة مدنية جديدة وقيادة منتخبة لأول مرة في تاريخها منذ العصر الفرعوني. المزيد من مقالات د. قدري حفني