لا يختلف اثنان علي أن النظام السابق قد أفسد المناخ الجامعي طيلة السنوات الثلاثين الماضية بشكل لم يكن له مثيل في تاريخ الجامعات المصرية العريقة. الذي يعود الي ما قبل خمسينيات القرن الفائت, فخرجت الجامعات المصرية من كل التصانيف العالمية لأحسن خمسمائة جامعة علي مستوي العالم لسنوات طوال, وتقلص دورها في خدمة الداخل والخارج بفعل فاعل, وبتعمد مقصود, وتهمش اعضاء هيئات التدريس المصرية بشكل فريد وعجيب, بل وباتت النظرة اليهم في عرف النظام المخلوع علي انهم مجرد موظفين في خدمة الدولة, لا يتميزون بأي مزية تذكر, ولا يعتد بشهاداتهم المميزة, ولا بتخصصاتهم النادرة, ولا برحلتهم العلمية الطويلة, ولا بأدوارهم المطلوبة كرموز للفكر والاجتهاد العقلي والانساني في خدمة المجتمع من كل زواياه الاجتماعية والفكرية والبيئية.. اضافة الي تقليص رواتبهم ودخولهم بشكل مثير للضحك والسخرية قبل ان يكون مثيرا للشفقة, فهل يعقل ان تكون حدود دخل الاستاذ الجامعي في مصر في دائرة الالف جنيه او اقل او اكثر قليلا, وهو المطالب بالانفاق علي اسرته وبيته وبحوثه وتجاربه العلمية وتحسين صورته امام المجتمع الذي ينظر اليه باعتباره رمزا حقيقيا للفكر وللعطاء الإنساني غير المحدود, وصاحب وضع اجتماعي مرموق, الامر الذي اضر معه العشرات بل المئات من اساتذة الجامعات الي الهروب والفرار من مصر الي مختلف الجامعات العالمية والعربية طلبا للمعيشة الانسانية الحقيقية أولا, ثم لخدمة تخصصاتهم العلمية التي ينتسبون اليها, ولا يجدون المناخ العلمي الخادم لهم و المقدر لجهودهم داخل وطنهم الأم مصر الغالية, واسألوا الاساتذة العلماء الاجلاء احمد زويل وفاروق الباز ومجدي يعقوب ومصطفي السيد وغيرهم عن المناخ العلمي الحقيقي في الخارج وكم كان المشهد مزريا لاساتذة الجامعات المصرية طوال السنوات السابقة وهم يقفون علي ابواب السفارات الاجنبية والعربية سعيا وراء الحصول علي تأشيرة سفر للفرار ممن لا يقدرون جهودهم, ولا طبيعتهم, وتقدر النسب المنشورة في الجهاز المركزي للاحصاء عدد الباحثين واساتذة الجامعات الفارين من مصر وحدها باكثر من200 الف استاذ جامعي وباحث وعضو هيئة تدريس منذ عام2000 والي يومنا هذا, اما الذين لم يتمكنوا من السفر فقد كانوا من اوائل الذين اقاموا التظاهرات السلمية داخل الجامعات وخارجها للمطالبة بتحسين اوضاعهم, وبالنظر الي دخولهم نظرة موضوعية تتناسب مع قيمتهم الحقيقية, ورحلتهم الطويلة في خدمة العلم وابنائه. اما اكبر الجرائم الحقيقية في حق الجامعات المصرية من جانب النظام السابق ومن جانب وزارات التعليم العالية البائدة فكان اهمالها لتطوير المناهج واللوائح العلمية للجامعات, وللكليات المتخصصة, فظلت اللوائح العلمية للجامعات المصرية علي حالها منذ ما يزيد عن نصف قرن في معظم الجامعات, رغم القفزات العلمية لجميع العلوم في الخارج والتي وقفنا حيالها مكبلين, تملكنا دوائر الدهشة والاستنكار من حال جامعاتنا ومؤساتنا العلمية, نشكو فقر المعامل وشح خاماتها, وادواتها واجهزتها ونتعجب من حال المسئولين عنها الذين لم تشغلهم الثورات العلمية بالخارج في جميع المجالات والتخصصات الدقيقة والعامة, بقدر ما شغلتهم الافكار الشيطانية في كيفية تقديم فروض الولاء والطاعة لاسيادهم الذين عينوهم في هذه المناصب دون ان نعرفهم ولا ان نسمع عنهم, بعد ان كنا نسمع قديما عن شروط وظيفة وزير التعليم العالي واولها ان يكون واحدا من ابرز رموز العلم في مصر. وقد ترتب علي ذلك كله خروج اجيال ضعيفة هشة وهامشية.. لا تقف علي ارض صلبة, ولا تستطيع العطاء تلفظها اسواق العمل في الداخل والخارج, وهو ما لم تعبأ بهم الحكومات السابقة, في كونها تخرج لنا كل عام آلاف الاجيال الجامعية الضعيفة والخاوية والسطحية, الذين لا يحتاجهم سوق العمل, لتتضاعف نسب العطالة, وتقع في اسر البطالة المخيف, ولتفرز لنا في النهاية قنبلة شديدة الانفجار وهذا ما حدث في ثورة25 يناير الشبابية الوردية, حينما انفجرت ثورة الشباب, تلك الثورة القائمة علي فكرة ان هذا الشباب الطاهر في ظل النظام السابق وجد نفسه بعد عشرين سنة دراسة وتعليم خاو مسطح في الهواء الطلق, يحارب طواحين الهواء ينتظر الامل الذي لا يجيء ابدا, والبشري التي لم تخرج من فاه مسئول امين حريص علي زهرة الامة وبراعمها الاطهار, الامر الذي دفعهم الي ركوب اعتي المخاطر واعظمها.. فركبوا البحر الي المجهول وهذا مالم نسمعه في تاريخ مصر كله طمعا في عمل يغنيهم عن آفة التسول في زمن مبارك وحكوماته الفاسدة التي لم يكن يعنيها سوي توزيع التركة من اراضي مصر الغالية والمقدسة علي رموزها العفنة والنهمة والطامعة, فباعوا ارض مصر بثمن بخس, وفرطوا فيها لحساب انفسهم, وتركوا شبابنا يواجه الموت في قلب البحر, يذهب بلا عودة, اوي عود ملفوفا باكفان الحسرة والالم والضياع والموت, واذا كنا نبحث عن تعويض حقيقي يتناسب وقيمة شهدا ءثورة يناير2011, فإنني اطالب من خلال هذه النافذة الشريفة بان نضع شهداء البحر الذين لقوا الموت علي شواطيء مصر وايطاليا وليبيا بحثا عن عمل شريف يغنيهم عن السؤال ضمن قوافل الشهداء الذين يحتاج بلا شك ذووهم واسرهم لما يعينهم علي مواجهة مشقة الحياة ومصاعبها. وبالاضافة الي تخرج الاجيال الضعيفة والمسطحة والهامشية في جامعاتنا, والدفع بهم الي دوائر المتاهات وغيوب الجب,, فقد عمد النظام السابق الي تطبيق سياسة شيطانية في نظم التعيينات الجامعية في المناصب العليا, فألغي نظام الانتخاب الحر الذي يسمح لاعضاء هيئات التدريس ومعاونيهم بانتخاب رؤسائهم وقياداتهم ورموزهم, الي قرار التعيين الجازم والمفروض علي الجميع كالسيف علي الرءوس والذي تحدده العلاقات والمحسوبيات والانتساب الي الحزب السافر وتتدخل فيه بصفة مباشرة اجهزة امن الدولة بشكل مستفز ادي بلا شك الي عقد الاحساس بالظلم المتفشي في انحاء الجامعات المصرية, مما ترك في النفوس غصة تنبيء باننا امام نظم لا حل لها سوي بالثورة عليها, ولذا جاءت مشاركة الموز الجامعية من اعضاء هيئات التدريس وابنائهم الطلاب والباحثين في ثورة يناير الطاهرة كرسالة الي النظام السابق نفسه بكوننا قد فاض بنا الكيل وطفح, ولم نعد نجد بديلا سوي بالثورة علي النظام الفاسد الجاثي علي القلوب والصدور والارواح. ويبقي ان نشير في النهاية الي نقطة حاسمة وخطيرة في تعامل النظام السابق ممثلا في وزارة التعليم العالي ورموزها مع جهود الاساتذة والباحثين والعلماء من ابناء الجامعات المصرية, الذين افرزوا للمجتمع المصري وللعالم اجمع الاف البحوث والدراسات في جميع التخصصات العلمية والطبية والتطبيقية والنظرية والانسانية, والتي للاسف لم تلق اي اهتمام بذكر, سوي ان تلقي في مخازن الوزارة, وارفف المكتبات الجامعية لا تري نور النشر ولا قيمته, ولا يستفيد منها احد, ولا تخرج الي نور الحياة, مما اضطر الاساتذة والباحثين الي البحث عن نشرها في المجلات الدولية والمحافل العالمية رغم تكلفتها العالية, لمجرد ان يستشعروا بانهم موجودون علي الساحة لا تضيع جهودهم, ولا تذهب هباء.