سطرت الثورة المصرية تاريخا مجيدا, ومغايرا لتواريخ الثورات في العالم, فهي شعبية بامتياز حيث حوت أطيافا وشرائح مختلفة من المصريين, وبدت حاملة أيضا لتنويعات فكرية متعددة, كما شهدت تكريسا للتلاحم الوطني بين المسلمين والأقباط( في الجمعة كانت الصلاة/ وفي الأحد كان القداس). بدت الشعارات المرفوعة, والهتافات المدوية, تعبيرا عن جوهر المطالب الشعبية بدءا من( الشعب يريد إسقاط النظام), وصولا إلي( الشعب يريد تطهير البلاد), وبما يعني أننا أمام عمل متجدد/ خلاق, لا يرضي بأنصاف الحلول, وإنما تبدو الثورة المصرية عملا جذريا, يحاول وبعمق استئصال شأفتي الفساد, والاستبداد, لقد نهض الشعب من قمقمه الذي استكان إليه طويلا بفعل سياسات الفساد والإفساد التي اتبعها النظام السابق, وأعتقد في جزم أن الشعب لن يعود إلي أدراجه مسبقا, قد قبضت الجماهير علي لحظتها الثورية الخاصة, وبدت أشد إدراكا لمجري التاريخ الذي نجحت أخيرا في أن تكتبه, وبدا الجيش المصري العظيم حاضنا, وضامنا لمكتسبات الثورة, خاصة أن تراث العسكرية المصرية وحاضرها وطني بامتياز, وصولا إلي دولة مدنية تتأسس علي قيم المواطنة, وترتكز علي قيم الحرية, والكرامة الإنسانية, والتقدم. دولة عمادها العدالة الاجتماعية, وغايتها إعادة الاعتبار إلي الدولة المصرية, ولدورها المركزي في العالم. لقد أسست الثورة المصرية لشرعيتها الخاصة, النابعة من إجماع وطني, وقدرة خلاقة علي الصبر والصمود, والانحياز إلي جوهر الأشياء, لقد خرج منا نحن المصريين أجمل ما فينا, وحين هلت بشائر التغيير تقافزنا في أماكننا كالأطفال, وكانت لفرحة النصر في عيوننا لمعة غير معتادة, لمعة يختلط فيها الفرح بالدموع, فرح الانتصار, ودموع الفرح, بهجة غامرة انتابت الجموع التي صابرت, وناضلت, وتيقنت من أن النصر قادم لا محالة, لقد أثبتنا أننا شعب إنساني بامتياز, متحضر, وراق, ومبدع, وخلاق, قادر علي الحراك وعلي الفعل معا, جدير بالديمقراطية الموعودة, وعنوان لها في آن. لقد بدت الثورة المصرية(52 يناير1102) انطلاقا واعدا لمستقبل مسكون بالديمقراطية الحقة, وليس المزعومة, بالحرية الكاملة, وليس بهامشها التعيس, وبدا أبطالها الحقيقيون من الثوار الشباب ليسوا كالزعماء التقليديين, فلا يعنيهم أن يتصدروا المشهد, أو أن ينتزعوا الجدارة من أحد, بل بدا همهم المركزي, وهاجسهم الرئيسي, إيمانهم بوطن يسعون إلي انتقاله من الهامش إلي المتن, من التخلف إلي الحداثة, من الفقر إلي الرخاء, مدركين أن طريقهم الأول سقوط الدكتاتورية بلوازمها وأدواتها, بأفرادها وأعوانها, وصولا إلي استشراف أفق ديمقراطي حقيقي, يعاد فيه الاعتبار إلي دولة المؤسسات, ويصبح فيه القانون سيدا مطاعا, لا يفرق بين حاكم ومحكوم, وتبني المواطنة بوصفها دستورا لدولة مدنية ينشدها الكل, ويتنسم أريجها المجموع. كشف مشهد الميدان الخالد( ميدان شهداء التحرير) عن أصالة الناس في لحظة فارقة من تاريخهم, لحظة يكتشفون فيها قدرتهم علي الفعل, بعد أن ظلوا طويلا جالسين, أو بالكاد واقفين علي الحافة, فانكسر حاجز الخوف الذي صنعته الأنظمة القمعية, وحماه قانون الطوارئ, وتسيد المشهد السابق/ البائس منظرون فارغون, قفزوا من السفينة تباعا, وتصالحوا رغما عنهم مع الثورة, هؤلاء خانوا المجموع, وانتصروا لمطامحهم الشخصية, ومطامعهم الانتهازية الرخيصة. وفي لحظة تاريخية تشابكت فيها الأحداث وتعقدت, تحرك في المصريين أعز ما فيهم, وانتفضت الجماهير لتعلن عن جدارتها الخاصة واستحقاقاتها الأبدية في حياة كريمة تليق ببشر نبلاء, وطيبين( كرامة/ حرية/ عدالة اجتماعية), ليصبح هذا الشعار التاريخي مصري الصنع والهوي والمزاج, تلخيصا ذكيا لما عاناه الشعب من صنوف الهوان في ظل أوضاع كارثية سياسيا, واقتصاديا, واجتماعيا, في ظل النظام السابق, حيث اختل ميزان التوازن الطبقي إلي درجة غير مسبوقة, وتغولت الدولة البوليسية بأجهزتها القمعية إلي حد مريب, واختزلت الديمقراطية في كونها حرية للنباح فحسب, أو( طق حنك) بتعبير الشوام . إن الثورة المصرية معني فريد وخلاق, تحوي داخلها جينات التجدد, والإصرار علي مجابهة كل ما يكبل إنسانية الإنسان, انطلقت من اللحظة الراهنة, لتفتح عينيها علي مستقبل مشرق, يقضي فيه تماما علي دولة التسلط والاستبداد, وتمحي صور الفساد, ومظاهره, مثلما تحاكم رموزه, وأعوانه, وأنفاره, هنا وعبر هذا الفهم تصبح الثورة المصرية حدا فاصلا بين عالمين: أحدهما قديم/ مهتريء/ متسلط ومستبد/ فاسد ولا إنساني/ أدواته رجعية, ورموزه سطحيون تقليديون, والآخر حداثي, مشتبك مع اللحظة الراهنة, مدرك لأسرارها/ واع بتفاصيلها وبمنجزها العلمي والتكنولوجي/ أدواته حداثية ذات طابع تقني, موعود بالحرية/ قائم علي العدالة الاجتماعية/ والكرامة الإنسانية/ يحارب فيه الفساد, ويتم تجريسه, وتهتك أستاره العفنة, والمخزية.