الشباب فورة وقوة ليس لها حدود معروفة, هي قد تكون مثل قوي الجسد علي العاطفة الرقيقة, أو قوة العضلات علي العقل, وغير ذلك المهم, لكن المهم أنه لوكانت لها حدود لما كانت قوة, هي قوة فكر وإرادة وتصميم تتفاعل داخل تلافيف المخ وترسل نبضاتها عبر شبكة أعصاب السمع والبصر والتنفس, , وتوافق الجسد الحركية في كل الاتجاهات. عنما تتلاحم جموع الشباب بمختلف تجلياتها الدافعة تحت شعار واحد يطلب التغيير يصبح كبللورات فوارة يصعب ايقافها, وكلما ذابت بللورات تجددت أخري من قناعة الداخل نتيجة عنف المواجهة المعترضة, الشيء المهم أن الفوران يحدث بتراكمات مادية ونفسية تكسر القيود النمطية المكبلة لها كالخوف من المجهول, أو الخروج علي إطارات سلوكية خلقية مجتمعية سائدة لفترة ما, تتجمع في مواجهة المعترضين والغاضبين لحقوقهم في حرية التعبير من أجل صنع مستقبل أفضل. وبرغم قلة تنظيمهم وندرة تسليحهم سوي الدفاع بالحجارة, فإن سلاحهم الأكبر هوحجم أعدادهم وهدير أصواتهم والتزامهم الدفين بقوة مطلبهم والدفاع عن أنفسهم ضد غائلة الموت هباء وسدي, وفي مواجهة الشباب عند عدد من القوي والأساليب التي استخدمها الحكم لإفشال الحركة هي: 1 قوي منظمة مسلحة خبيرة ومدربة علي تكتيك الضرب وتفكيك الجموع إلي شراذم يسهل خنقها بحصارها ومطاردتها وتفتيت عضدها لتقنعهم كم هم قوة فاشلة محتومة بالقمع والعقاب والموت. 2 اندساس بعض المدربين من قوي أمن وميليشيات الحكم بين المتظاهرين لبث اشاعات أن بينهم جواسيس السلطة, أو بينهم عناصر مدفوعة من جهات تركب الموجة الشبابية لمصالح خاصة من أجل فقدان الثقة بين الشباب, والتلفت حذرا من هؤلاء ومن ثم انقسام معسكر الشباب. 3 محاولة التفريق بين الثائرين بالتركيز المستمر علي أنهم مجموعة من الشباب النقي الطاهر له أهداف مشروعة في حرية التعبير ورفض الفساد المستشري وكرامة العيش وتوفير العمل والسكن اللائق, لكن جاء وسطهم متأخرا شباب الحركة الدينية المتعددة للوثوب علي نظام الدولة المدنية, ولكن تلك الدعوات لم تؤد إلي هدف الانقسام أو تحويل الحركة إلي نزاعات داخل صفوفهم, فقد كان الجميع ملتفين علي جوهر مطلبهم إسقاط النظام, أما اختلاف الأجندات فهو مسموح به تدعيما لوجود الرأي والرأي الآخر, وبالتالي إقامة نظام تعددية الأحزاب بديل نظام الحزب الواحد. 4 استخدام خوف الأهل علي أبنائهم بتركيز إعلام الدولة علي مشاعر حقيقية لأمهات دامعة تصرخ علي أبنائها وهي قوة عاطفية عاصفة لا يستهان بها قد تحدث شرخا في تصميم الشباب, لكن هذه الحملة كذبتها وجود أسر كاملة بأطفالها علي الأكتاف تهتف للثورة, وهو ما أعطي دفعا للشباب علي المضي قدما. 5 سلاح آخر فاعل استخدمه إعلام الدولة وبعض الإعلاميين والكتاب وإن اختلفت رؤي كل منهم, وهو سلاح الخسائر المادية الاقتصادية التي حلت بأصحاب الأعمال, الصغار قبل الكبار والعاملين لديهم وسقوط الموسم السياحي وإعلان أن أرقام الخسائر اليومية بالملايين والمليارات التي تفزع الناس جميعا, وسواء كانت الأرقام محسوبة علي الناتج المحلي العام السنوي أو غير ذلك, فإن هناك خسارة حقيقية يومية, فالخسائر في فترات الصراع السياسي والثروات أمر معروف, فقد خسرت فرنسا المليارات في ثورة الطلبة8691 التي امتدت إلي كل عمال الصناعة والمواني والنقل والشركات والوزارات لمدة نحو شهرين, لكن نتائجها كانت شاملة من حيث تحسين الأجور والتعليم والإدارة بل سقطت ايديولوجية أن الثورات العمالية انتهي عهدها بحيث وصفها الكتاب فيما بعد بأنها كانت انقلابا عالميا في مفاهيم روجت لها الرأسمالية. 6 ومثل هذا التغيير يمكن أن يحدث بعد ثورة52 يناير في مصر من حيث تغير أساليب الاستثمار المحلي والأجنبي وتقييد ضوابطه فضلا عن سقوط الخصخصة ومتاهة الأيدي العاملة بين التحديث والبطالة, وفوق هذا اسقاط استبدادية الحكم, وإقامة محاسبة حقيقية للجميع من الرئيس إلي الغفير بإنشاء نظام ديمقراطي حقيقي يمثل كل الناس نصل إليه بالممارسة, بدلا من سياسة القول إن الشعب لا يعرف بعد قواعد الديمقراطية, وبالتالي يحتاج إلي تأهيل تسيطر عليه الأولجارشية الفكرية والفساد وهروب أموال مصر بدل إعادة ضخها وتشغيلها داخل مصر. 7 ثم أليس من العبقرية التجريبية المصرية أن تنتقل محلات وخدمات التيك أواي المحلية كشري وفول وطعمية وخبز وبسكوت وحلوي والمياه والمشروبات إلي ميدان التحرير طوال أيام الثورة العشرين؟ ولا شك في أن خدمات أخري كثيرة قد انتقلت إلي التحرير مثل الصحف وأجهزة الاستماع ومكبرات الصوت ومركز إذاعة محلية للتبليغ عن كل الأمور, وأقمشة وبطاطين ومراتب واسعافات أولية وأمن داخلي ونظافة, باختصار كان التحرير كميونة متكاملة مثل كيمونات باريس في0781 و8691, ومع هذا الثبات الجماعي بين الثوار والخدمات كان البعض يثير تساؤلات خفية الدلالة حول من الذي يمول الثوار بكل تلك الحاجيات؟ لم يكن السؤال بريئا بل للاشارة إلي مجهولين يمولون الثورة فهو إذن تساؤل ليس سليم النية, وفي هذا المجال يجب ألا ننسي التساند والتكافل الاجتماعي الذي يساعد الناس أوقات الأزمة فهلا تحققنا لاحقا من هذه الأوضاع حتي لا نظلم البراءة والدوافع الاجتماعية المتأصلة فينا نحن المصريين! 8 حين طالب الرئيس بتركه يحكم حتي نهاية ولايته ورفض الثوار ذلك أمطر ماسكي منتصف العصا, وعدد من الإعلاميين وبعض المتخصصين في الشئون الدستورية وابلا من التفسيرات القانونية لتبرير بقاء الرئيس بقية ولايته في الحكم خلاصته: لا يجوز التعديل الدستوري بدون وجود الرئيس ووجود البرلمان, بمعني أن رفض بقاء الرئيس يعني عدم جواز أي تعديل دستوري, ربما هناك بعض الصحة بافتراض أن الأوضاع عادية لكن المرجئين نسوا أن الأوضاع استثنائية بحكم الثورة الشبابية الشعبية التي تطلب اسقاط النظام وليس فقط الرئيس, وبالتالي أن هناك شرعية جديدة تحاج شرعية سابقة, ولحسن الحس الثوري سقطت ثغرة الدفرسوار الجديدة التي حاول النظام العبور منها باستمرار مطالبها بذات القوة والتصميم السلمي, فاستحقت بجدارة أن يطلق عليها الثورة البيضاء برغم مئات قتلاهم ومئات جرحاهم ومئات الذين اختطفتهم وأخفتهم قوي النظام المتراجع. 9 خلال كل هذا الزخم وجدت ثورة شبيبة مصر أشكالا من الدعم من شيوخ موضوعيين حزبيين ومستقلين, ولكن الأهم أنها وحدت كل أشكال الشعب الذي يقاتل من أجل بقائه تحت وطأة حكم دام طويلا حتي تآكل من الداخل قبل الخارج وبرغم, تقديمه شاب هو ربيب واستمرار الفساد الحاكم بقضه وقضيضه, فلم يكن أمام النظام سوي طريق واحد هو الهزيمة الماحقة. 01 استخدم النظام آخر أوراق اللعبة: جيش مصر, لكن الجيش كان أكثر وعيا من النظام فقد ظل علي الحياد شكليا, لكنه حمي أبناء مصر من الطغاة ولعله القشة التي قسمت ظهر البعير ببيانه الأول المحافظة علي مكتسبات الشعب, ساعد ذلك علي سقوط النظام أخيرا برغم أوراقه التي كانت أول وآخر أوراقه:إما النظام وإما الفوضي, وأخيرا انتصرت مصر, فالأفراد زائلون مهما كان الجشع, والوطن باق ما شاء الله, عاشت مصر أول وأقدم دولة في التاريخ بفضل أهلها وعزمها وقدرتها علي التغلب علي كل المحن باستمرار يحسدها عليه كل العالم. أخيرا بحكم مصريتي أرجو عدم المبالغة في استخدام كلمات الثناء أو العتاب أو الجفاء بأكثر مما يلزم, درجنا علي أفعل التفضيل, لكن ذلك يؤدي عكس المطلوب, فكثرة الثناء مثل البراءة والنقاء قد تؤدي إلي تفتح الذاتية التي تصل إلي النرجسية, وبالمثل كثرة الهجاء تؤدي إلي إحباط لا ندرك مداه من السوء والتجني, سلمنا الله من التطرف غير المقصود, الموضوعية والشكر الواجب ضرورة من غير تفخيم, والانتقام القانوني الواجب بدون تشف وحقد, فكلنا أبناء مصر المجيدة بدون تعظيم وأحقاد.. هذا هو سر الوجود لمصر آلاف السنين. المزيد من مقالات د. محمد رياض