بينما تستعد مصر لاستقبال دستور جديد.. يناسب مرحلة فاصلة بين ما فات وبين ما هو آت, يكون من الضروري أن نحدد بدورنا أي النظامين نريد:رئاسيا يضع السلطات التنفيذية الخطيرة كلها في يد شخص واحد هو رئيس الدولة ويخلق حالة انفصام بين السلطات؟ أم برلمانيا يعلي من شأن الإرادة الشعبية ويجعل الحكومة مسئولة أمام البرلمان, ورئيس الجمهورية حكما محايدا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ وبمعني آخر هل نختار التجربة الأمريكية للنظام الرئاسي أم التجربة البريطانية للنظام البرلماني؟ نعلم أن كليهما ناجح في بلاده ولكن ليس بالضرورة أن يكون صالحا لبلادنا! علا مصطفي عامر قبل ستين عاما اختار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر النظام الرئاسي في دستور54, بينما حذرفقهاء مصر الدستوريون من أعضاء لجنة الخمسين من عدم صلاحية هذا النظام, مقررين ضرورة أن يكون النظام السياسي المصري برلمانيا, ومع ذلك كان النظام منذ ذلك الحين وحتي الدستور الحالي رئاسيا! وفي سطور هذا الموضوع نقدم آراء المختصين, ونعيد قراءة التاريخ والرجوع لما قاله أعضاء لجنة الخمسين. الفقيه القانوني الدكتور شوقي السيد يؤكد أن النظام البرلماني القائم علي وجود مجلس منتخب البرلمان يستمد سلطته من سلطة الشعب الذي انتخبه واختاره بإرادته الحرة هو الأنسب لجمهورية مصر العربية في المرحلة الراهنة, موضحا أنه يحقق مبدأ الفصل بين السلطات علي أساس من التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, ويجعل رئيس الدولة حكما بين السلطات بحيادية دون تحيز,لا يملك من السلطة إلا جانبها الإسمي فقط, أما الجانب الفعلي فيكون للوزراء, وكما هو متبع في بريطانيا موطن النظام البرلماني الذي تعبر عنه الجملة الشهيرة الملك يسود ولا يحكم ويحقق هذا النظام الديمقراطية, والإرادة الشعبية, ويتيح مساءلة الحكومة بقوة, ويضمن ألا تطغي سلطة علي أخري, ويري علي العكس من ذلك النظام الرئاسي غير مناسب, كما قال الفقهاء الدستوريون منذ ستين عاما, ولم يأخذ برأيهم الرئيس الراحل عبد الناصر, علي الرغم من أن عمل لجنة الخمسين في عام1953 كان بناء علي طلبه لاختيار دستور جديد للبلاد, ويفسر ذلك برغبة الرئيس في الاحتفاظ بسلطات واسعة مركزة جميعها في يده,والزعم أن الشعب لم ينضج سياسيا بعد ليكون مهيأ للنظام البرلماني, ويضيف د شوقي: رغم صدور عدة دساتير, فإن العودة لما قاله هؤلاء الفقهاء, ضرورة خاصة أننا جربنا النظام الرئاسي بعد ثورة يوليو1952 وتبين عدم ملاءمته, مشيرا إلي أن دستور71 بعد التعديلات التي أدخلت عليه لم يعد رئاسيا خالصا, وإنما مختلطا وهو أيضا غير ملائم لمصر بعد الثورة الشعبية الأخيرة. عيوب الرئاسي مساؤي الرئاسي ومزايا البرلماني وأيهما الأفضل لمصر.. كان موضوع تقرير أعده خمسة من جهابذة القانون في مصر, وهم عبد الرازق السنهوري ومكرم عبيد والسيد صبري وعبد الرحمن الرافعي وعثمان خليل والذين كونوا ما يعرف بلجنة الخمسة المشكلة بناء علي طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, ذكر التقرير عيبين أساسيين للنظام الرئاسي يتفرع عنهما جملة من العيوب,الأول: هو الفصل التام بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية, رغم كونهما بحكم طبيعة العمل الموكول إليهما مكملتين لبعضهما. والثاني يتعلق بجمع هذه السلطات التنفيذية الخطيرة في يد واحدة علي نحو يجعل رئيس الجمهورية جامعا بين رياسة الدولة ورياسة الحكومة ورياسة القوات المسلحة ورياسة حزبه, وهذه سلطات واسعة تنذر بديكتاتورية سافرة. فالجمع بين رياسة الدولة ورياسة الحكومة, يجعل الرئيس مسيطرا علي السلطة التنفيذية ويجعل الوزراء أعوانه الشخصيين, يختارهم من بين أصدقائه وأعضاء حزبه الموالين له,وتكون مساءلتهم أمامه هو, ولا يستطيع البرلمان إسقاطهم, كما أنه ليس للوزراء أن يرسموا لأنفسهم سياسة غير سياسة الرئيس, فإذا مرض أو غاب, وقفت إدارة السلطة التنفيذية, وقد حدث أن مرض الرئيس الأمريكي ولسن عدة أشهر عام1920 فلم تجتمع الوزارة طوال هذه المدة! أما الجمع بين رياسة الدولة ورياسة القوات المسلحة فيجعل للرئيس اختصاصات حربية بعيدة المدي, فهو القائد الأعلي لجميع القوات وله أن يستخدمها لقمع الثورات والفتن أو للدفاع عن البلاد, وكان لقرارات الرئيس الأمريكي روزفلت أثر في التعجيل بدخول أمريكا في الحرب العالمية الأخيرة, باحتلاله ايسلندا وإرساله قوات مسلحة إلي أيرلندا واتخاذه قوات بحرية وبرية في ممتلكات بريطانية. أماالجمع بين رياسة الدولة والرياسة الحزبية فيجعل معركة انتخابات الرياسة معركة حزبية قاسية وعنيفة, تنفق فيها الأموال الطائلة, وتتبع فيها الأحزاب أساليب غير مشروعة, والرئيس بعد فوزه يعتبر مدينا لحزبه بهذا الفوز, وأكد التقرير أن الجمع بين رياسة الدولة وبين هذه الرياسات يجعل قيام الحياة الديمقراطية في غير الولاياتالمتحدةالأمريكية أمرا عسيرا,إذ أن تطبيق هذا النظام في دول أمريكا الجنوبية أسفر عن تكريس السلطة الفردية للرئيس,وأصبحت هذه الدول مرتعا خصبا للديكتاتورية. البرلماني يحاسب الحكومة أما النظام الجمهوري البرلماني الذي قررت اللجنة بالإجماع وجوب الأخذ به فيقوم علي ثلاثة أسس: يعتمد الأول علي فصل رياسة الدولة عن رياسة الحكومة, فرئيس الجمهورية هو رئيس الدولة, وتكون رياسته محايدة ومستقرة ولمدة معقولة, ويكون رئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء, والأساس الثاني يقوم علي مسئولية الحكومة أمام البرلمان, وبناء عليه يجب علي البرلمان في أحد مجلسيه علي الأقل أن يبسط رقابة فعالة علي أعمال الحكومة, ويستطيع أن يسقطها إذا سحب الثقة منها. وثالث أسس النظام البرلماني أن يكون للحكومة حق حل المجلس الذي بيده حق نزع الثقة, الأمر الذي يحقق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وانطلاقا من تجارب مصر وخصوصيتها اشترطت اللجنة عددا من الضمانات لاستقامة تطبيق النظام البرلماني بمصر وهي: كفالة استقرار السلطة التنفيذية وذلك بإحاطة حق نزع الثقة من الوزارة بقيود, حتي لا تصبح مزعزعة وتستطيع تحمل مسئولياتها في الإصلاح, وكذلك كفالة استقرار السلطة التشريعية, فلا يكون البرلمان معرضا للحل لأتفه الأسباب, وكفالة مبدأ سيادة الدستور وسيادة القانون, وذلك بإقامة رقابة قضائية فعالة علي دستورية القوانين التي تسنها السلطة التشريعية, وعلي شرعية القرارات التي تصدرها السلطة التنفيذية,والضمان الجدي لذلك كله هو وعي الشعب وقدرته علي إلزام كل سلطة حدها. مصر ليست أمريكا بمجرد ذكر النظام الرئاسي يسارع البعض بالإشارة إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية كنموذج ناجح لتطبيق هذا النظام وبالتالي الدعوة للاقتداء بها, فهل فعلا يصلح نظام أمريكا السياسي لمصر ؟ كان هذا السؤال مما أجابت عنه لجنة الخمسة في تقريرها, مرجعة نجاح النظام الرئاسي في أمريكا إلي اعتبارات محلية خاصة بهذه البلاد, التي كانت تواجهها بعد استقلالها عن الحكم الإنجليزي مشكلة وجود فريق قوي يدعو إلي وجوب استقلال الولاياتالأمريكية عن بعضها البعض, وكاد بالفعل ينتصر هذا الرأي, لولا تدخل أنصار النظام الفيدرالي القائلين بدمج هذه الولايات في شخصية دولية واحدة, وبعد أن رجحت كفتهم كان لا بد من اختيار نظام يقوي السلطة التنفيذية المركزية حتي تتغلب علي النزعات الانفصالية التي كانت لا تزال مغروسة في نفوس سكان كل ولاية, ولكن بعد أن استقر النظام الفيدرالي بدأ النظام الرئاسي للولايات المتحدةالأمريكية في التطور نحو النظام البرلماني, وحدث اقتراب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية علي نحو من التعاون والانسجام وأصبح رئيس الجمهورية في أغلب الأحوال الزعيم الفعلي للأغلبية البرلمانية, وقالت اللجنة: إن الأفضل من الأخذ بالنموذج الرئاسي بعد تطوره هو اللجوء للأصل البرلماني أما الرد علي مطلب الأخذ به كما هو فمرفوض لأن ظروف أمريكا تختلف عن ظروف مصر. ورغم أن تقرير لجنة الخمسة تم اعتماده من لجنة أوسع عرفت باسم لجنة الخمسين ضمت ممثلين لأحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطني القديم والجديدوالإخوان المسلمين بالإضافة لأعضاء من لجنة الثلاثين التي وضعت دستور1923 ورغم ذلك تم تنحية كل الدراسة بمقترحاتها ونتائجها جانبا, وإختيار النظام الرئاسي لمصر. الوعي غائب ويعلق الدكتور أحمد كمال أبو المجد الأمين العام لمجلس حقوق الإنسان سابقا مؤكدا أن النظام البرلماني أفضل لمصر من النظام الرئاسي, إلا أنه يري أن نجاح أي نظام يظل مرهونا بثقافة الشعوب ووعيها وقدرتها علي الاختيار, لافتا النظر إلي وجود مشكلات تتعلق بالوعي السياسي لدي فئة كبيرة من الشعب المصري, خاصة مع ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية فضلا عن الأمية السياسية, وهو مايجعل المرشحين في المجالس البرلمانية يستغلون جهل البعض كما يستغلون معاناة الفقراء وسكان الأحياء الشعبية للفوز بأصواتهم, كما يرصد أبو المجد الواقع السياسي الذي يعاني من ضعف شديد في الأحزاب المصرية الموجودة علي الساحة, نتيجة تقوية الحزب التابع لرئيس الجمهورية علي حساب الآخرين, في الوقت الذي نجد فيه الأحزاب بدول أوروبا تتنافس بشكل قوي, ويري أن دورا كبيرا يتعين علي كل من وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية القيام به لإيجاد الوعي السياسي لدي القاعدة المجتمعية, مما يخلق مناخا مواتيا لنجاح النظام البرلماني الذي يعتمد علي اختيار الشعب لمن يعبر عنه بأمانة. ويطالب بإعادة قراءة ما توصل إليه فقهاء مصر ومفكروها وأساتذتها في لجنة الخمسين, مطالبا بالاستفادة منها برؤية نقدية جديدة.