سنقع فيخطأ فادح مهلك لو اعتمدنا فيتقويمنا للثورة المصرية الراهنة عليشاشات التليفزيون والتعليقات الصحفية الخفيفة, واعتبرناها انفجارا عفويا أو معجزة لا يمكن تفسيرها, وحصرناها فيالشباب الذين استطاعوا أن يتجمعوا في ميدان التحرير بفضل ما لديهم من أدوات اتصال لم تستطع أجهزة أمن النظام الساقط أن تسيطر عليها أو تنتبه لخطرها. هذا تفسير بالغ السذاجة والقصور, لأنه يقف عند الوسيلة التي استخدمها شباب الخامس والعشرين من يناير في التجمع, لكنه لا يشرح لنا الدوافع القوية التي زودت هؤلاء الشباب بالبصيرة والعزم والشجاعة الضرورية لمواجهة نظام يعلمون جيدا أنه شديد البطش بالغ الشراسة, مدجج بكل الأسلحة, وهدتهم لأن يستعملوا في هذه المواجهة ما لديهم من أدوات وتقنيات وشبكات اتصال قد يستعملها البعض في خلق عالم آخر يعزلهم عن مجتمعهم الغارق فيالمشكلات ويعفيهم من أداء واجبهم نحوه. واذا كان الفيس بوك هو الذي ساعد المجموعة الأولي من شباب الثورة علي التجمع, فالثورة لم تقف عند هذه الحدود, ولم تقتصر عليالشباب وحدهم, ولم تنحصر في ميدان التحرير, وانما تفجرت الثورة واتسع نطاقها, وشارك فيها الشباب والشيوخ, والرجال والنساء والأطفال, والفلاحون والطلاب, والعمال والموظفون الذين ملأوا الشوارع والميادين فيمدن مصر وقراها, وواجهوا السلطة بكل جبروتها ووحشيتها وسوقيتها, ليس يوما واحدا ولا يومين ولا ثلاثة, بل أيام متواصلة قضوها في مواجهة الموت النازل عليهم, والمجهول الذي لا يعرفون ماذا يحمل لهم, وتحت وطأة المطالب والحاجات التي لم يكونوا يستطيعون تلبيتها فيالشوارع والميادين المحاصرة. معجزة بالفعل! لكنها معجزة بشرية لها أسبابها القريبة والبعيدة, ولها دوافعها في الواقع الذي نعيشه, وفي الوعي الذي لابد أن يفرزه هذا الواقع, وفي القيم الإنسانية التي نؤمن بها, والغايات التي نسعي للوصول إليها, والذين ينسبونها لتكنولوجيا الاتصالات وحدها يجردونها من مضمونها الإنساني, وعبقريتها المصرية, ويسرقونها أو يعرضونها للسرقة, فمادامت الثورة انفجارا حدث بلا مقدمات فهي إذن حادثة فجائية مقطوعة الصلة بالتاريخ, كأنها طفل غير شرعي ملقي فيالعتمة يستطيع أي لص عابر أن يسرقه, ويدعي أبوته, ويسميه باسمه, ولكي ننقذ الثورة ونحميها من الوقوع في أيدي اللصوص المتربصين بها, علينا أن نكشف عن تاريخها وننظر إليها كنتيجة حتمية للمقدمات التي سبقتها, انها, كما قال واحد ممن شاركوا فيها, الضربة الأخيرة التيانهار بها الجدار بعد مائة ضربة توالت عليه من قبل. الذين يزعمون أن الثورة حدثت دون قيادة ودون مقدمات يجعلونها مجرد رد فعل علي ما لقيه المصريون من مظالم تحت حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك, كأن حكم مبارك لم يكن استمرارا لحكم السادات, وكأن حكم السادات لم يكن استمرارا لحكم عبدالناصر, وكأن ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت علي شخص الرئيس ولم تكن علي نظامه, وهذا بالطبع قصور في التفكير أو تشويه متعمد للحقيقة, وتضليل لجماهير المصريين. مبارك لم يكن إلا وريثا للسادات, والسادات لم يكن إلا وريثا لعبدالناصر, وليس معني هذا أن العهود الثلاثة كانت صورة واحدة مكررة, فالحقيقة أنها تلونت واختلفت. عبدالناصر دخل في حرب مع الاستعمار الغربي ومع النظم التقليدية في المنطقة, ورفع شعار الاشتراكية, والسادات قاد معركة العبور, وتحالف مع الاخوان المسلمين, وبدأ طريق العودة اليالاقتصاد الحر, ومبارك واصل السير في طريق السادات الذي انتهي باغتياله علي يد الجماعات الدينية التي دخل معها مبارك فيصراع طويل أنهكها وأنهكه هو أيضا, غير أن هذه العهود الثلاثة لم تكن فيالحقيقة إلا مراحل توالت في ظروف مختلفة لنظام واحد هو النظام الذي صنعه ضباط يوليو, وبقيت أسسه وأركانه واحدة وإن تغيرت شعاراته, انه ديكتاتورية تأسست علي انقلاب عسكري لم نخرج منه بعد, وإن وضعنا فيالخامس والعشرين من يناير أقدامنا عليالطريق. ومن الطبيعي في ظل هذه الديكتاتورية أن يعطل الدستور أو تلفق مواده تلفيقا بواسطة المحترفين الاجراء, وأن يتحول الشعب الي قطعان مصطفة أمام المخابز, وأن تعطي كل السلطات لطاغية يتلاعب بالشعارات, فالاشتراكية في هذا النظام ملكية دولة لا تهدف لتحقيق العدالة أو توزيع الربح علي المنتجين, وانما هدفها الفعلي احكام السيطرة علي مقدرات البلاد ووضع الشعب تحت رحمة الحاكم, إنها اشتراكية النظم الفاشية, والدين فيهذا النظام ليس قيما أخلاقية ومثلا عليا تجمع بين أبناء الوطن الواحد وان اختلفت عقائدهم, ولكنه سلطة قاهرة تفرق بين المواطنين وتميز بينهم وتسلبهم حقهم في حكم أنفسهم بأنفسهم, مدعية أنها تطبق الشريعة, أي تحكم باسم الله, فليس لمخلوق أن يعارضها أو يحاسبها عليما تفعله, من هنا رأينا كيف تحالف ضباط يوليو مع الاخوان المسلمين في بداية انقلابهم, وفي عهد السادات, فإذا كان هذا الحلف قد تصدع فالخلاف لم يكن حول الأساس الذي قام عليه الحكم المطلق, وانما كان بين طرفين يريد كل منهما أن يستخدم الآخر فيالوصول للسلطة والانفراد بها. لقد استخدم ضباط الانقلاب الاخوان المسلمين في إلغاء الدستور وحل الأحزاب في الخمسينيات, واستخدمهم السادات في ضرب خصومه الناصريين واليساريين في السبعينيات, وبالعكس فقد استخدم الاخوان المسلمون النظام فيعهوده الثلاثة فيالترويج لأفكارهم والاعلان عن وجودهم حتي حين كانوا معتقلين, وكان نشاطهم محظورا, لأن النظام الذي كان يمنع نشاطهم ويعتقلهم كان طغيانا صريحا يعتمد في وجوده واستمراره علي أجهزة الأمن, ولم يكن نظاما ديمقراطيا يعتمد عليقاعدة شعبية تؤازره في صراعه مع الجماعات الدينية التي قدمت نفسها للناس في صورة تثير التعاطف, لأنها تعارض الاستبداد وتتعرض للاضطهاد وترفع شعارات يضطر النظام للمزايدة عليها حتي يقول إنه أكثر اسلاما من الاخوان المسلمين وان صراعه معهم لا يمنعه من تبني شعاراتهم! هكذا صيغت المادة الثانية فيالدستور التيجعلت الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للقوانين, وهكذا ظهر قانون الحسبة الذي اعتمد عليه بعض المرتزقة في كيل التهم للكتاب والشعراء والمفكرين والفنانين المصريين وترويعهم والطعن في عقائدهم والحكم عليهم بالردة والتفريق بينهم وبين زوجاتهم, وتحريض الغوغاء عليهم, وهكذا أصدرت الجمعية العامة لقسميالفتوي والتشريع في مجلس الدولة برئاسة المستشار طارق البشري فتواها التيحولت الأزهر الي محكمة تفتيش وجعلته وحده صاحب الحق في فحص المؤلفات والمصنفات التي تتعرض للإسلام فيأي جانب من جوانبه, وإبداء الرأي فيها للترخيص بنشرها أو عدم الترخيص, وقد استغلت هذه الفتوي أسوأ استغلال, فلم يعد من حق أحد أن يراجع تاريخ المسلمين أو يبدي فيالفكر الإسلامي رأيا يخالف رأي الذين يفحصون عمله, ولو كان أدري منهم وأعلم بهذا التراث وأحرص علي تنقيته من الخرافات وتجديده وتزويده بالخبرات الإنسانية الجديدة. في ضوء هذه الحقائق ننظر الي ثورة الخامس والعشرين من يناير والي الشعارات التي رفعتها فنري بوضوح أنها ليست ثورة علي شخص فاسد أو أشخاص فاسدين فحسب, وانما هي ثورة عليالنظام الفاسد كله, حتي ولو لم يكن هذا واضحا لكل المشاركين فيها, الذين نشأوا في ظل نظام جعل السلطة احتكارا, وحظر النشاط السياسي, واضطهد المخالفين والمعارضين. ثورة الخامس والعشرين من يناير ثورة عليالانفراد بالسلطة وما يتبع الانفراد بالسلطة ويصحبه من قهر وفساد وتخلف, وإذن فلابد من دستور جديد يعيد للأمة حقوقها المهدرة ويضمن تداول السلطة. وثورة الخامس والعشرين من يناير ثورة علياستغلال الدين وخلطه بالسياسة, وإذن فلابد من دستور يفصل فصلا حاسما بين السياسة والدين, ويضمن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد. ولاشك أن من حق الاخوان المسلمين أن يمارسوا نشاطهم فيالنور, بدلا من أن يتحركوا فيالظلام, لكن ليس من حقهم أن يسرقوا ثورة المصريين من أجل الحرية ليقيموا سلطة دينية تعيدنا اليعصور الظلام وهذا ما يحاولون أن يقوموا به الآن! كما أن من حق الأزهر أن يكون له في شئون الحياة رأيه الذي يستطيع أن يعبر عنه ويعلنه, لكن ليس من حقه أن يتجاوز نشاطه العلمي إلي النشاط السياسي, ولا يجوز له أن يعمل فيخدمة السلطة أو يتحول الي محكمة تفتيش. هكذا نقرأ ثورة يناير ونفسرها ونعرف أهدافها, فنجد هذه الثورة المجيدة تتويجا لكل ما سبقها من نضالات شارك فيها اليسار واليمين, العمال والفلاحون, الموظفون, والصحفيون, والطلاب, والمحامون, والقضاة والشعراء والكتاب والمسرحيون والسينمائيون والموسيقيون, والذين يحصرون الثورة في الشباب يريدون أن يعينوا أنفسهم شيوخا لها يتولون قيادتها, والذين يجعلونها ثورة علي مبارك وحده يريدون أن يبقوا علي نظام يوليو المنهار ويحلوا محل الحاكم المستبد! المزيد من مقالات احمد عبد المعطي حجازي