سقط النظام السابق, وبقي أن يسقط معه أيضا بعض الذين مارسوا لعبة المعارضة في السيرك السياسي الذي نصبه ذلك النظام سنوات طويلة, لقد صدعوا رؤوسنا زمنا بأن هذه المعارضة جزء من ذلك النظام, ولكنهم اليوم يتبرأون من الانتساب إليه لأنه باختصار سقط. , ولا يريدون السقوط معه, هؤلاء الذين جاء بهم النظام السابق ليمنحوه مظهره الديمقراطي الزائف, ولم يكونوا في الحقيقة سوي مخالب مخفية لبعض أقطابه, هم مصدر الخطر علي النظام الجديد الذي نسعي لبنائه لأنهم يمنعوننا من أن نثق في هذا النظام إن هم أصبحوا في الحكومة أو المعارضة. اختاروا أن ينتشروا عمدا عبر كل الفضائيات إلحاحا علي الناس بأسمائهم, وحتي يصبحوا جزءا من ثورة فاجأتهم, ولم تكن أبدا من صنع أفكارهم, كانت مواقفهم تتبدل صعودا وهبوطا في توازن دقيق مع تطورات السجال بين المتظاهرين والنظام طوال أيام الثورة. كان الزمان مساء الخميس العاشر من فبراير بعد ساعات من إعلان الرئيس السابق تفويض نائبه بإجراء التعديلات الدستورية, وهو التفويض الذي رفضته ثورة المصريين, جلس أحد هؤلاء المعارضين علي شاشة التليفزيون يبحث في أعماقه عن انفعالات تدرب كثيرا علي اصطناعها, يعصر عينيه أمام الكاميرا لعلها تسعفه ببضع قطرات من الدموع يحتال بها علي مشاهديه, أخذ المهيج الشعبوي يندب الحرية الضائعة إن لم يوافق الشباب علي ما أعلنه الرئيس, نعي علي الأمة آمنها وسلامتها إن لم توافق علي التفويض, شرح للأمة ما ينتظرها من الويل والثبور وعظائم الأمور إن أصبح الحكم للعسكر, اختنق صوته بعبرات زائفة وراح يشير في كل اتجاه يصيح في الشباب ويصرخ, يرجوهم أن يقبلوا عرض الرئيس بتفويض نائبه, وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة كان ذلك المهيج الشعبوي قد تناسي حديث الأمس, أطل علي الناس من شاشة أخري للتليفزيون ضاحكا مستبشرا يوزع ابتساماته العريضة, يستجدي ثناء الناس علي دور لم يقم به أبدا في الثورة العظيمة, هتف بنجاحها ونقاء أهدافها, وطهر شبابها وصمودهم, فقد تنحي الرئيس أخيرا, وجاء العسكر, وفي مجيئهم الخير كل الخير للبلاد والعباد, كان الحديث احتيالا وترقبا لدور يريده في نظام لم يولد بعد. مارس من أجله أقسي أنواع الكذب, ولم يكن سوي واحد من آخرين طال نضالهم الزائف وكثرت أكاذيبهم وألاعيبهم علي شاشات الفضائيات التي وقفوا بأبوابها وتفرغوا لها. أعود للحكومة الجديدة, منذ أكثر من ألفي عام قال كونفشيوس, وهو يعظ تلميذه تسو كونج ثلاثة أشياء تحتاجها الحكومة: السلاح والطعام والثقة, فإذا لم تستطع أن تحتفظ بها جميعا, فعليها أن تختار أن تتخلي عن السلاح أولا, ثم عن الطعام ثانيا, أما الثقة فعليها أن تكافح من أجلها حتي النهاية, فبغير الثقة لا يمكنها البقاء قال كونفشيوس كلمته ومضي, وبقيت قلة من الحكومات تعي معني ثقة المحكومين فيها, فالسلاح لا يبقي حكومة والطعام وحده لا يكفي, هذا كلام قديم لم ينفع نظاما اختبأ وراء عربات مدرعة جاء بها لمواجهة شعب أعزل إن هو فكر في الخروج عليه, وحين خرج هذا الشعب تداعت تلك الأسلحة سريعا. أكثر ما نحتاجه الآن قبل الأمن, وقبل الاقتصاد هي أن نبني تلك الثقة ولا شيء قبلها, فالثقة سوف تعيد الأمن وتنعش الاقتصاد, فقد اندلعت ثورة المصريين حين وصلت الثقة في النظام السابق إلي أدني مستوي لها, ولن نبني نظاما جديدا بغير أن تحل الثقة محل الشك, لسنا نريد الثقة في الحكومة وحدها, ولكننا نريد الثقة في الأطياف السياسية كلها, فلن نحاور من لا نثق بهم ولكننا لن نبني نظاما بغير حوار مهمة ليست سهلة ولكنها ممكنة. لم تكن ثورة الشباب في مصر ثورة جياع, كما توقع المحللون والمنجمون, كانوا أشبه بكائنات هبطت الأرض من فضاء خارجي صنعوا فيه عالما لم نعرفه وتحدثوا لغة لم نفهمها, لم يكونوا فقراء يتسولون عطايا النظام, أخرجهم القمع والفساد, وعدم الثقة من عوالم الانترنت احتجاجا علي نظام ظل يعد كثيرا بالحرية ومكافحة الفساد, وحين خرج النظام ليؤكد الوعود بشيء من الحرية والنزاهة كان الوقت قد مضي, فلم تعد تجدي الوعود أن تنفع العهود, فقد تلاشت لدي الجميع الثقة كاملة في هذا النظام فهوي سريعا. والنظام الجديد الذي ينشأ اليوم علي أنقاض نظام قديم بحاجة إلي أن يعي تلك الحقيقة التي غابت, وتغيب عن أنظمة كثيرة الثقة, ولا شيء غيرها, سنوات طويلة تركنا فيها مجتمعا بأسره يعاني الشك, ويتحمل تبعات عدم اليقين, صحيح أنه ليست لدينا ضمانات بأن الذين نمنحهم الثقة هم بالفعل يستحقونها, ولكننا نظل محتاجين أن نثق, وأن نتخلص من ثقافة الشك لأنها أكثر إيلاما, الحكومة وحدها هي التي سوف تقرر إلي أي مدي سوف نثق بها, وهي لا تستطيع أن تفعل ذلك دون اعتقاد جازم بأن نجاحها وبقاءها مرهون بثقتنا فيها, أيام قليلة مضت استطاع فيها المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يكتسب ثقة المصريين, ولهذا فقط تسير الأمور إلي الأفضل رغم أجواء الأزمة. والثقة ليست فقط أن تقول الحكومة الحقيقة, وأن تتيح المعلومات لكل راغب فيها, وإنما تأتي أيضا من مصادر أخري لا تقل أهمية عن قول الحقيقة, أولها الكفاءة, فلن تمنح الناس ثقتها لمسئولين هم بالكاد أنصاف مؤهلين, يفتقرون إلي الكفاءة اللازمة لإنجاز المهمة, لقد عرفنا من قبل وزراء كانت كفاءتهم محل شك, ولم يكن ينفعهم كثيرا إن هم قالوا الحقيقة أو أنكروها, تحظي الحكومة بثقة الشعب إن هي أقامت اختياراتها لوزرائها وكبار مسئوليها علي الوطنية والكفاءة, ونأت باختياراتها عن الولاء وترشيحات الأصدقاء وجماعات المصالح والإعجاب الشخصي, ويرتبط بالثقة أيضا أن تختار الحكومة اللغة الصحيحة التي تخاطب بها الناس, وكذلك الشخص الذي يستطيع استخدامها. قدر السيد أحمد شفيق أن يكون أول رؤساء الوزارة في عهد جديد, وهي مهمة شاقة لأنه يرسم أول ملامح العلاقة بين الحكومة والشعب الذي انتفض فاقدا الثقة في النظام الذي سبقها, فهو يجلس في مقعد اعتاد مستخدموه الكذب كثيرا وطويلا هو مطالب بحكم الظروف الراهنة أن يتحدث كثيرا حتي يعرفه الناس ويعرفوا, فيما يفكر, وكيف يفكر, وقد قطع الرجل علي الطريق خطوات ملموسة غير أني أخشي أن يكون قد اقترب من الإسراف في الحديث إلي الناس, حيث الآمال عريضة والامكانات قليلة, وأخشي في حماسه الراهن أن يعد بأشياء لا يستطيع الوفاء بها, فيعيدنا إلي ثقافة الشك مرة أخري, وأحسب أنه علي وعي بذلك حتي الآن. تحتاج الحكومة في بناء الثقة إلي قدر من الديناميكية, وسرعة الحركة والاستجابة لما يطالب الناس به عملا أو حوارا لا أن تتركهم في مطالبهم المشروعة شهورا علي الأرصفة يتسولون حقوقهم تحتاج الحكومة أن تستقل هي عن وسائل الإعلام, وأن تسهم في إعادة صياغة نظام إعلامي جديد, وبناء مؤسسات إعلامية عامة, وخاصة تعبر عن تعددية حقيقية لا تخضع لجماعات المصالح. وتحتاج الحكومة أيضا في بناء الثقة أن تبادر الأغلبية الصامتة التي انسحبت من عبث الحياة السياسية السابقة, وأن تشارك, وأن تتفاعل, وأن تفرز من صفوفها وجوها جديدة يحتاجها الوطن في هذه المرحلة حتي تنهي احتكار اقلية احترفت السياسة واسترزقت منها فأفسدتها. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين