قبل ما يقرب من الشهر, قدمت مقالة بعنوان سقط الديكتاتور والغرب وانتصرت تونس العظيمة, وهو عبارة عن قراءة لخبرات الثورة التونسية العظيمة وضرورة إسراع دول المنطقة للاستجابة لتطلعات وآمال شعوبها وحل مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل أن يجرفها الطوفان هي الأخري, ومنعت المقالة من النشر. وقبلها بعدة أشهر وبالتحديد في شهر سبتمبر الماضي كتبت مقالة أخري بعنوان هل حان أوان رحيل حكومة نظيف وتم منعها من النشر أيضا, وكانت ترصد سوء الأداء وتزوير البيانات الحكومية وانتشار البطالة والفقر والاحتكار المحمي بالنفوذ السياسي والغلاء الذي ينهش دخول ومستويات معيشة الفقراء والطبقة الوسطي, والديون الداخلية الهائلة التي توازي أكثر من11 ألف جنيه لكل مواطن والتي تسهم في إشعال التضخم, ويضاف إليها ديون خارجية كبيرة يصل نصيب كل مواطن منها إلي نحو0062 جنيه إضافية, والفشل الكبير في تحقيق كل وعود الرئيس وحزبه في انتخابات عام5002 بشأن مواجهة البطالة والفقر وتوفير المساكن لمحدودي الدخل واستصلاح الأراضي وتوزيعها علي الخريجين, والفساد المروع في منح الأراضي للأقارب والمحاسيب بأسعار رمزية, والفساد الأكثر هولا في خصخصة القطاع العام بأسعار بالغة التدني لا تزيد علي5% من قيمته في الكثير من الحالات بما شكل نهبا مذهلا في دناءته للمال العام. وربما لو تم النشر وتمت إقالة تلك الحكومة والاتجاه نحو الإصلاح الحقيقي والاستجابة لمطالب الشعب, لما وصل النظام إلي حالة الانهيار والرفض الشعبي الجارف له والذي صار لا راد له. وهذا الغضب الشعبي تغذي ولزمن طويل علي الاحتقانات المتراكمة بسبب القمع وكبت الحريات وتسلط الشرطة وتعسفها واستخدامها لأشكال التعذيب التي وصلت إلي حد القتل بدم بارد كما حدث في واقعة قتل الشهيد خالد سعيد, وهو ما استمر وتم توثيقه خلال الثورة. وتغذي هذا الغضب أيضا علي تفاقم مشكلة البطالة التي تحرم ملايين الشباب, أو نحو4.8 مليون عاطل من كسب عيشهم بكرامة وتحولهم إلي عالة علي أسرهم التي يقتسمون دخلها المحدود معها, وتغذي أيضا علي انتشار الفقر الذي يغطي بمظلته السوداء عشرات الملايين من أبناء مصر في ظل سوء توزيع الدخل بسبب قوانين الأجور والضرائب المتحيزة للرأسمالية الكبيرة علي حساب الشعب من العمال إلي المهنيين وأصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة وحتي الكبيرة ممن لا يملكون نفوذا سياسيا. وبالتوازي كان الإعلام الحكومي الأكثر فظاظة في التزوير في التليفزيون ينشر الأكاذيب الحكومية طوال الوقت, وبالذات عندما اندلعت الثورة في52 يناير التي اتهمها بكل الأباطيل ما يستوجب محاكمة وزير الإعلام أنس الفقي لأنه ضلل الرأي العام وحرض علي العنف والبلطجة والقتل ضد أنبل أبناء مصر ممن فجروا ثورة الغضب علي كل أشكال الفساد والقمع والظلم. والطريف أنه عندما أعلن النائب عمر سليمان عن تحرير الإعلام, قامت نفس الوجوه التي مارست الكذب وترويج أباطيل الحكومة ضد الثورة وأبطالها, بتغيير مواقفها ولونها كالحرباء والحديث عن الثورة ومشروعية مطالبها. واختصارا, فإن ثورة الشعب المصري تؤكد ما سبق ورصدته بشأن ثورة تونس من أن انفجار الشعب في مواجهة القهر السياسي وتزوير الإرادة الشعبية في الانتخابات وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار البطالة والفقر إلي جانب الثراء الفاحش لقلة من الفاسدين وناهبي المال العام, يمكن أن يحدث ويتحول إلي طوفان ثوري بدون سابق انذار. كما أن انسحاب الشرطة وقيامها باطلاق السجناء وتحريضهم علي ترويع المجتمع والسرقة والنهب هي جريمة خيانة عظمي بكل ما تعنيه الكلمة من معني, بما يستوجب محاسبة ملائمة لهذا الفعل لكل من شاركوا في اقترافه, خاصة وأنه كان فعلا منظما ويبدو كخطة للانقام من الشعب في حالة حدوث أو رفض للنظام القائم كما حدث جزئيا وبشكل أخف كثيرا في تونس. وقبل هذا الفعل قامت الشرطة باطلاق الرصاص الحي والمطاطي والقنابل المسيلة للدموع بكثافة رهيبة, مما أدي إلي سقوط عدد كبير من الشهداء والجرحي من الشباب الثائرين الذين اتسم سلوكهم السلمي تماما بمستوي راق من التحضر, يجعل إطلاق الرصاص الحي والمطاطي علي أنبل وأشجع أبناء هذه الأمة جريمة مشينة, فمن هو الذي اقترفها؟ هل هو وزير الداخلية السابق أم مسئول آخر. وفي هذه الحالة وفي أي مسعي لاستعادة الاستقرار, أليس ضروريا أن يخضع من أقدم علي هذه الفعلة الشنعاء للمحاكمة والمحاسبة علي دماء شهداء أنبل أنباء الوطن؟ ومقابل العنف المروع للشرطة ضد شباب الثورة ثم انسحابها وإطلاقها للمجرمين لترويع المجتمع, أصر الجيش المصري مثلما فعل الجيش التونسي قبله, علي القيام بدوره في حماية البلاد ولم يوجه طلقة إلي المتظاهرين, مؤكدا أن دور الجيوش هو حماية الأوطان وليس الاعتداء علي المواطنين. أما الحديث عن التأثيرات الاقتصادية للثورة, فإنه ينبغي أن يكون واضحا أن ما أصاب الاقتصاد المصري ناتج أساسا عن عناد النظام السياسي وعدم استجابته جديا لمطالب الشعب, وليس عن الثورة نفسها. وبالنسبة للبورصة وهي حساسة للغاية لأي اضطراب أو غموض في التوقعات المستقبلية, فإنها تراجعت بقوة, لكن هذا التراجع مؤقت, وعندما تستقر الأحوال سترتفع أسعار الأسهم طالما أن الأصول التي يتم تداول أسهمها تعمل وتحقق نتائج إيجابية. أما قطاع السياحة الذي عاني من الخسارة الأكبر والتي تقدر بنحو مليار دولار شهريا, فإنه سيتعافي سريعا عندما تستقر الأحوال, بل ان مصر التي ستولد من رحم الثورة ستغري أعدادا أكبر من السياح علي زيارتها. أما تراجع الجنيه المصري بتأثيراته السلبية علي حركة الأسعار, فإنه ناتج عن قيام الفاسدين من السياسيين ورجال الأعمال بتحويل ما في حوزتهم من جنيهات مصرية إلي دولارات وعملات أخري لتهريبها للخارج, وهو ما يمكن السيطرة عليه باجراءات جيدة مثل تلك التي قررها محافظ البنك المركزي, وأيضا من خلال تشديد الرقابة علي تهريب الأموال بكل السبل عبر المطارات أو البنوك الأجنبية. أما التراجع والاضطراب في التجارة الداخلية والخارجية فإنه ناجم عن حالة الفوضي التي نجمت عن سحب الشرطة من تأمين الملكيات العامة والخاصة, وقيامها باطلاق عتاة المجرمين من السجون لترويع المجتمع ونشر الفوضي, مما جعل نقل السلع من مواقع إنتاجها إلي أماكن استهلاكها أو إلي مواني التصدير, محفوفا بالمخاطر لعدة أيام خسر فيها هذا القطاع كثيرا. لكن الأثر الاقتصادي الايجابي للثورة المتمثل في فتح الباب أمام كشف الفساد ومحاسبة الفاسدين, يمكن إذا اكتمل أن يعيد لمصر الكثير من مالها العام المنهوب, وأن يمنع ويكافح الفساد الذي يستنزفها ويسحق حقوق شعبها. إن مصر جديدة تولد من رحم ثورة الشباب, وينبغي تنظيف صورتها من كل من أساءوا إلي مصر وشعبها, ومن أفسد وأفقر وقمع الحريات ونشر البطالة لا يمكن أن يصلح, فمصر التي تريد التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية أفرزت شبابا رائعا قادرا علي القيام بهذه المهمة وتجديد شباب أقدم أمة في الدنيا أو أم الأمم.