والقيالة هي المرادف العامي لكلمة القيلولة والمرتبطة بعادة نعرفها هنا في مصر كما تعرفها شعوب أخري كثيرة خصوصا شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. وهي عادة النوم بعد انتصاف النهار وحين نقول إن فلان قيل فإن هذا يعني أن الفلان الذي نقصده ذهب في غفوة القيالة ولعل من أشهر شعوب ممارسة لعادة نوم الظهيرة الشعب الإسباني الذي يصل تمسكه بتلك العادة إلي درجة تقترب من التقديس فتكاد شوارع المدن الصغيرة والقري في إسبانيا تخلو من الحركة تماما وقت القيلولة.. نفس ما يحدث عندنا حين يهجع الجميع إلي مراقد الغفوة أو النوم العميق في تلك الفترة المتأخرة من الظهيرة وقبيل حلول الأصيل( العصر).. وبلغ من شيوع العادة وتحكمها أن راجت في المأثور الشعبي أسطورة عفاريت القيالة حيث يظهر في حالة السكون والهجوع واختفاء الحركة نوع من الأشباح أو المردة التي تجوب الأرجاء مطمئنة دون أن يراها إلا من يجرؤ علي مخالفة عادة النوم النهاري وفي هذه الحالة تعابثه تلك الأشباح وتلاعبه وترعبه.. هذا بالطبع ما تحكيه الأسطورة. لكنني لا أتحدث اليوم عن نوم الظهيرة ولا أريد أن أحلل الاعتقاد الشعبي بهذا الشأن وإنما أردت أن أصف الحالة في فترة زمنية عشناها نحن أبناء جيل الستينيات وكانت تشبه فترة القيلولة بالنسبة لأعمارها( عز الظهر), وإن كانت عكس الفترة في كل معطياتها وسماتها إذ لم تكن فترة الستينيات فترة هجوع أو نوم, بل كانت فترة تشغي بالحركة وتمور بالحيوية والانطلاق بل والانفلات أحيانا كما كان لها بدورها عفاريت قيالة من طراز خاص علي المستويين الأدبي والفني.. إذ أنبتت الأرض من كل اتجاه كتابا وشعراء وفنانين تشكيليين ملأوا الرحب, واحتلوا الأرصفة والمقاهي والمنتديات الأدبية, وقد راحوا يمارسون كل فنون الصعلكة والعفرتة الأدبية..تأثروا جميعا بجيل الآباء ومن قبله جيل الأجداد وبمن جايلهم هم من الأعمام وتلقوا من إبداعاتهم الدروس الأولي التي علمتهم ووضعتهم علي بداية طرق الإبداع ولكنهم في فورة الحماس التي تملكت كل أبناء هذه الفترة وجعلتهم يقتحمون الأرجاء مؤمنين في إصرار يكاد يكون عصابيا بأنهم وحدهم من يحملون رسالة التجديد والمعاصرة وقتها وهم فقط المناط بهم رفع ألوية الثورة علي المسلمات القديمة.. أذكر مقالا كتبه واحد من أشهر كتاب هذا الجيل هو الأستاذ محمد حافظ رجب حين صرخ في صدر مقاله بمانشيت صار بعدها وكأنه شعار الثورة.. نحن جيل بلا أساتذة وقد أثارت هذه الصرخة ما أثارته في حينها من مساجلات ومناقشات ساخنة بين كتاب ونقاد الفترة, ولا أريد طبعا أن أفتح الحديث هنا من جديد بعد مرور ذلك الردح الطويل من الزمن, ولكني أشير فقط إلي ما انتاب قيلولتنا من حماس واندفاع وإثارة لكل القضايا والتمرد علي كل الثوابت والمسلمات, ولكن يبدو أن هذه الإشارة قدست أوتارا كثيرة للذكري تبدأ بسؤال أين العزيز حافظ رجب الآن؟ وأين باقي عفاريت تلك الفترة؟ أين يحيي الطاهر وعبدالله خيرت وزكريا التوابني ومحمود دياب ومحمد غنيم وأين إبراهيم منصور وحسن النجار وأمين ريان؟ .. وكم تهفو النفس ويغشاها حنين يقطر لوعة واشتياقا إلي أيام الخمسينيات الأخيرة علي بوفيه كلية الآداب جامعة عين شمس في الخازندارة بشبرا! كان البوفيه يحتل مساحة مسروقة من حلبة المصارعة استولي عليها بوضع اليد وثبت أقدامه لم يكن المكان عامرا بالديكورات الحديثة ولا بالزخارف.. كان كما ذكرت الآن مجرد صالة وضعت بها مجموعة من المناضد والكراسي لا أكثر, ولكنها كانت تشهد يوميا انعقادا تلقائيا لمنتدي أدبي وثقافي كان يجمعنا أكثر مما تجمعنا قاعات المحاضرات, فهناك كان يجتمع أبرز كتاب وصحفيي وأدباء مصر.. هناك التقيت بصلاح جاهين لأول مرة! وهناك بدأت صداقة لم تفتر حتي الآن بيني وبين سيد حجاب, وعلي نفس مائدة الركن المجاورة للباب الذي يطل علي فناء الكلية جلست طويلا مع محمد عفيفي مطر وحسن النجار وعبدالفتاح الصبحي وأمين ريان وكامل الكفراوي ومحمد شعلان.. وعند هذا الأخير أتوقف لأحدثكم عن موهبة قصصية نادرة المثال شهد لها كل نقاد وكتاب القصة الكبار( وأولهم يوسف إدريس الذي كتب ينبئ بأن يكون محمد شعلان نجم القصة الأول في الجيل التالي لجيل الكبار) وإذا تساءلنا اليوم كيف صمت قلم محمد شعلان حتي رحل عن الدنيا منذ سنوت؟وإذا أردنا أن نلامس الحقيقة فسأحكي كيف دفعته الظروف السياسية والاقتصادية المتلاطمة التي تعاني مصر آثارها حتي اليوم إلي السفر لبلاد الخليج, حيث يكون الهدف هو جمع الثروة وتؤجل جميع الأحلام الأخري إلي ما بعد وسنقول إن محمد فقد قلمه في تلك الرحلة التي أطاحت بكثيرين مثله من المواهب المصرية الحقيقية. أتلفت اليوم لأبحث حولي في من بقي من عفاريت القيالة وأحزن قليلا, ولكني كعادة كل المصريين لا ألبث أن أتفاءل وأبتسم ملء شدقي, وأنا أري أن الغسق مازال يلمع في آفاقنا بنجوم يعجز عن إطفائها قانون الزمن وتوالي الليل والنهار والسنين والأيام, مازال هناك سليمان فياض وخيري شلبي جنبا إلي جنب مع بهاء وأصلان والكفراوي وقنديل والبساطي وعبدالمجيد والغيطاني. وهكذا دون ترتيب أو قصد تري أن عفاريت الستينيات مازالوا مع انتهاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يملأون الرحب بالضجيج.. ضجيج العافية والقدرة والخبرة. لكن شيئا من الحزن ينغص علينا ونسي هؤلاء الأحباب.. فلم نعد نلتقي كما كنا ولم يبق غير لقاءات الصنعة في المناسبات, وكم هي شحيحة وضئيلة, ومع ذلك فلست أعتقد أن هذا أمر غريب في زمن أصبح قانونه الحياة بين جدران المنازل ومقاهي الألعاب الإلكترونية.. زمن تعود فيه إلي منزلك فلا تجد طفلك في انتظارك يتقافز حولك ويتعلق برقبتك, وإنما عليك أن تبحث عنه لتجده مستغرقا في عالم يعيشه وحده مع شاشة الكمبيوتر والإنترنت! المزيد من مقالات أسامه أنور عكاشه