هذه العلاقة بين المسلمين وأبناء الديانات الأخري كانت سهلة وسلسلة في أيام الإسلام الأولي ثم بدأت تتعقد رويدا رويدا مع الفتوحات والحكم والمصالح وتناقضها. ومع تناثر الولاة في أرجاء الأراضي التي فتحها المسلمون صار الأمر أكثر تعقيدا فكل وال له وجهة نظره وله مصالحه يفرضها ربما برغم أن الخليفة لم يكن راضيا, لأنه لم يكن يعلم كل ما يجري في أرجاء الاراضي التي يحكمها. وذات يوم كان هارون الرشيد جالسا في حديقة واحدة من قصوره ومرت سحابة كثيفة فظن الحاضرون انها ستمطر وبدأوا في الاستعداد للدخول الي القصر خوفا من أن تمطر, لكن السحابة ابتعدت وعادت الشمس لتشرق فقال الرشيد ضاحكا ومتباهيا أمطري حيث شئت فخراجك سيأتيني فقال أحد الجالسين: والله يا أمير المؤمنين إن أتاك هذا الخراج فإنك لن تعلم أكان قد أتي حلالا أم حراما ويمضي أبو الفرج الاصفهاني في كتابة الأغاني قائلا: فاغتنم الخليفة وبدا الحزن علي وجهه ونهض من مجلسه قائلا وما حيلتي وعندي ولاه بعضهم ذئاب وبعضهم نعاج وقليلهم يتحري العدل وكثيرهم يظلم الاخرين فيظلم نفسه ويظلمني معه تذكرت هذه الواقعة وأنا أتهيأ لكتابة هذا المقال حول كتاب أكثر من رائع. الكاتب محمد علي علوبة باشا والكتاب الإسلام والديمقراطية وعلوبة باشا كان واحدا من كبار المفكرين والمثقفين المستنيرين الذين أسهموا في إضاءة المناخ المصري عندما كان هذا المناخ يستجيب للضوء, وقد اختارته مصر المستنيرة سفيرا لها لدي دولة باكستان في أول أيام تأسيسها, وفيما كان الحكام الباكستانيون الذين اتخذوا من الإسلام الكثيف من مناطق الدولة الحديثة التأسيس سبيلا للتمايز عن الهند والانفصال عنها, يبحثون عن طريق لوطنهم الجديد, وفيما كانوا يستعدون لإعداد دستور لدولتهم طرح الواقع الجديد عليهم عديدا من الأسئلة. منها: كيف تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ وكيف تكون العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخري في الدولة الحديثة؟ وكيف تتشكل السلطة التشريعية فيها؟ وعلي أي أساس يكون التشريع؟ وماذا يسمي الحاكم أمير مؤمنين أم خليفة أم رئيس جمهورية؟ وما حكم الإسلام في ذلك كله؟ وحمل قادة الدولة الوليدة أسئلتهم إلي سفير مصر دولة الأزهر الشريف ليسألوا رأيه. فأعد علوبة باشا اجاباته في شكل دراسة ممتعة ضمنها فيما بعد في كتاب عنوانه الإسلام والديمقراطية والدراسة تستحق التأمل وتستوجب الاقتداء بها ونقرأ فيها نهض الإسلام بالإنسان إلي مكانة عليا فاحترم عقله وإرادته وحريته, وتركه حرا من غير أن يكرهه علي أن يعتنق هذا الدين أو ذاك, ولم يشرع الحرب أداة لالزام الناس ان يكونوا مؤمنين, بل دفاعا عن النفس والعقيدة ص29. أما عن اسلوب الحكم فإن علوبة باشا ينصحهم قائلا إن الإسلام قد أتي وفقط بقواعد عامة لقيادة الجماعة ولأصول الأحكام, قواعده أغلبها عام يرجع الي مكارم الأخلاق وتقوم علي أساس الشوري لكن تفاصيل تلك الشوري متروكة للمسلمين ليقرروا أصلح الأنواع التي تتناسب مع الزمان والمكان وظروف الأحوال ولما يستجد من أحداث ووقائع, فقواعد الإسلام في هذا الباب وفي غيره عامة ومرنة وتتسع لكثير من الأمور الجديدة التي تستدعيها طبيعة العمران المتجددة, ولقد كان الإسلام حكيما في ذلك ص40, ويمضي علوبة باشا فالشوري من القواعد التشريعية العامة التي أمرنا أن نعمل بها في شئون المسلمين, وفي شئون الدولة, لكن الإسلام ترك تحديدها وتفاصيلها للمسلمين ليختاروا نوع الشوري التي تتناسب مع حياتهم الاجتماعية, وهنا يصح للمسلمين ان ينشئوا مجالس نيابية بجانب ولي الأمر, وجاز لهم أن ينشئوا بجانب هذه المجالس مجالس أخري تراقب الأولي وتراجع ما تقرره حتي تكون قراراتها ادعي للطمأنينة وأقرب الي الصواب والسداد, ويجوز للجماعة الإسلامية ان تجعل الانتخاب حرا طليقا لتختار الأمة بحرية تامة من تشاء, كل هذا وغيره من الأمور لم يشأ الإسلام ان يدخل في تفاصيله بل تركها الي ضمير الشعب ونمضي لنقرأ كذلك لم يحدد الإسلام شيئا اسمه خلافة أو إمارة أو إمامة أو أي اسم اخر بل ترك ذلك للمسلمين ولهذا جاز لنا أن نلقب من يلي الحكم بأي لقب شئنا فقد نلقبه رئيسا أو حاكما أو سلطانا أو ملكا أو شاهدا أو امبراطورا فهذه القاب لا يعني بها الاسلام في شيء, وأمرها متروك للمسلمين لا يقيدون فيها بشيء إلا ان يكون الحكم دستوريا واختيار ولي الأمر دستوريا وان يكون الشعب مصدر السلطات.. فتلك حالة تختلف باختلاف الزمان والطباع والتقاليد ص.45 أما عن علاقة المسلمين في هذه الدولة بأبناء الديانات الأخري فقد أكد علوبة باشا ضرورة التسامح والمساواة التامة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين أبناء الوطن بسبب من الدين في أي حق من الحقوق ثم يشير الي العهد الذي أعطاه عمر بن الخطاب الي سكان القدس بعد فتحها علي يد المسلمين ويقول فيه هذا ما أعطي عمر أمير المؤمنين أهل ايلياء من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأمانا لكنائسهم وصلبانهم لا يكرهون علي دينهم ولا يضار أحد منهم ص.36 ويبقي ان نتأمل الفارق بين باكستان الأولي التي ألزمت نفسها بما نصح به علوبة باشا فتقدمت واستقرت وأصبحت قوة نووية ونجحت في بناء وطن متقدم ومتطور ومستنير. وبين باكستان التالية التي سادها الفساد والإفساد وادعت التأسلم وتسيد فيها المتطرفون والمتأسلمون ففرضوا عليها شريعة الغاب بزعم انها شريعة الإسلام وما هو كذلك بل هي أبعد ما تكون عن صحيح الإسلام. وتحولت الي غابة يسودها القتل والاغتيالات والتمييز ليس فقط ضد أبناء الديانات الأخري وانما بين السنة والشيعة فتفجرت القنابل في الكنائس والمساجد معا, وقتل الالاف وتحولت باكستان الي ساحة حرب مجنونة لا عقل فيها ولا دين لها ولا تقدم. فهل نتلقن الدرس؟