استهل العالم العربي أيامه الأولي من العام الجديد بوصول عدد من الأزمات العربية حدود الذروة, هكذا سارت الأحداث في تونس, والسودان, ولبنان, وبرغم خطورة ما جري ويجري في السوادن ولبنان, فإن ما وقع في تونس تصدر مشهد الأحداث في العالم العربي, حيث لم تصل الأوضاع إلي نهايتها بعد, وكم نتمني أن تجتاز تونس أزمتها وتستقر أحوالها وتستقر أقدامها علي الطريق الذي يحقق للشعب التونسي الشقيق أمنه وآماله, والثقة كاملة بقدرة هذا البلد العربي الشقيق علي تحقيق ذلك دون المزيد من الفوضي واختلاط الأوراق, أو تدخل خارجي صريح أو مستتر في شئونه, وما أكثر المتربصين بالاستقرار في المنطقة, وما أكثر الذين يريدون انتهاز الفرصة لترسيخ أقدامهم هنا وهناك, واستثمار غضب الشارع التونسي أسوأ استغلال برغم الترحيب والتهليل بما يجري في الشارع التونسي. سوف يظل أمن تونس جزءا من أمننا, ومصالحه شديدة الارتباط بمصالحنا, من أجل ذلك نتابع ما يجري في تونس ونخشي علي تضحيات الشعب التونسي أن تئول في نهاية الأمر للقوي التي تسعي لإحداث الفرقة والفتنة حتي تسود الفوضي فتخرج إلي تحقيق أهداف كان من الصعب عليها تحقيقها بدون تلك الفوضي, من أجل ذلك نخشي علي تونس أن تنتهز قوي التطرف أوضاع الشارع وغضبته فتتصدر قواه المحركة لتصل به في نهاية الأمر إلي الخضوع والوقوع فريسة لفكر يجرد تونس من كل إنجازاتها الثقافية والاجتماعية, ويعيدها قرونا إلي الوراء, ويحكم قبضته التي لا فكاك منها إلا بحمامات الدم. لقد جربت المنطقة حكم بعض من تلك القوي التي ترفض الانصياع لصوت الشعب, أو العقل, وفي سبيل أفكارها نشرت الفتن, وأثارت القلاقل, ولاتزال تحاول إدخال المنطقة بأسرها في دوامة من العنف والعنف والمضاد. أفكارهم وتحركاتهم تعبر عن نفسها بوضوح في لبنان, حيث توشك الأحوال أن تنفجر بحرب أهلية, أو قمع شركاء الوطن من كل الطوائف بالسلاح الذي يحملونه بعيدا عن سلطة الدولة ونفوذها, وكذلك في العراق حيث تحول تحركاتهم وأفكارهم دون الوصول إلي توافق عراقي بين كل الطوائف حقنا للدماء, وطلبا للأمن والسلام. وليس السودان بعيدا عن ألاعيبهم وقد أسهموا بشكل فاعل فيما وصلت إليه الأمور في السودان. القوي العابثة بمصير المنطقة كثيرة, وهي تري في كل اضطراب أو فوضي فرصتها النادرة لتحقيق ما تريد, وما يحدث في منطقتنا وبين شعوبنا العربية لا يمكن أن يكون مصادفة أو وليد المشكلات والصعوبات التي تواجهها, فما تواجهه شعوب العرب ليس أصعب ما واجهت من مشكلات, ولكن هناك عناصر عديدة تدفع المنطقة نحو الانهيار, ولعلنا نترقب ما يحدث في جوارنا في السودان بعد استفتاء تقرير المصير لجنوبه, والإغراءات الغربية والأمريكية المخيفة لشماله ليقبل بالانسلاخ الأول لأكبر الدول العربية والإفريقية, السودان, إلي دولتين, وهل يتوقف الانهيار عند هذا الحد أو يمتد؟ والمشكلات ظاهرة في الشمال حيث الأزمات متكررة ومتعددة, بل وفي الجنوب تطلعات تحمل في طياتها ما هو أكثر من الأزمة مع غياب عناصر كثيرة للاستقرار وقيام الدولة. ............................................................... لقد عرفنا في مصر هذه القوي وخبرنا خططها وأساليبها بالإرهاب تارة, وبإثارة الفتنة الطائفية المزعومة تارة أخري, وبالتحريض والتهوين من إنجازاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تارة ثالثة, ولم تنجح برغم كثرة المحاولات. لقد عرفنا كيف نحافظ علي وحدتنا وأمننا واستقرارنا في مواجهة كل دعاوي التشكيك في كل شيء, وفي كل تجربة وكل إنجاز. إن هذه المحاولات المتكررة لم تفعل شيئا سوي أن زادتنا قوة ومنعة وقدرة علي التحدي والصمود في وجه جميع هذه القوي, وزادتنا إصرارا علي مواجهة مشكلاتنا وتفكيكها والتخلص الآمن من بعضها. الأحداث المضطربة في بعض المناطق العربية من حولنا, تدفع هذه القوي إلي الزج باسم مصر في مقارنات غير مقبولة وغير منطقية. فما تشهده مصر من وقفات, أو احتجاجات فئوية أو مهنية هو من قبيل الحيوية السياسية المصرية, التي تسمح لكل الفئات بأن تعبر عن مطالبها وطموحاتها. هي ليست بحال كتلك التي يحلو لهم المقارنة معها. وجميع تلك الوقفات أو الاحتجاجات المهنية وجدت طريقها للحل من خلال التفاوض. ومحاولة تصويرها علي أنها مقدمات لاحتجاج عام وتمرد في الشارع ليست إلا أوهاما تداعب خيال المرضي السياسيين في الداخل والخارج. فعقب ما وقع في تونس سارعت تلك القوي التي منيت بهزيمة ساحقة في الانتخابات الأخيرة تريد أن تستعيد مكانتها التي ضللت بها الكثيرين في الداخل والخارج. المكانة التي فقدتها وكشفتها إرادة المصريين. هم الأكثر ترويجا للمقارنات بين ما يحدث من اضطرابات في بلدان عربية وبين ما يحدث في مصر. لايدرك هؤلاء حجم مصر ولا مغزي التماسك والوحدة التي تميز المصريين منذ أزمان التاريخ البعيدة. ولن تفلح أي محاولة لهم في إثارة الشارع المصري الذي بات يعرف جيدا أساليبهم ونياتهم المناقضة لطبيعة الشخصية المصرية المعتدلة دينا وفكرا وثقافة. ولايريدون أن يقروا بأن الشعب المصري لفظهم ولفظ شعاراتهم الموهومة. لايزال البعض ممن يتابعون الأحداث العربية تستهويه أن يعقد مقارنات أو يحاول أن يزج باسم مصر في أنها معرضة لهذه الاهتزازات.. عندما حدثت الفتن في السودان والانقسام حاولوا الحديث عن مصر, وكيف أن الانقسامات سوف تطالها وأنها معرضة لفتنة دينية متناسيا أن مصر بلد ليس به طوائف, فالمسيحيون جزء من نسيج الوطن, يعيشون مع إخوانهم المسلمين في كل مكان وليس في حي أو إقليم مسيحي, وأنهم حتي لو حاولوا إحداث انسلاخ للمسيحيين المصريين لا يستطيعون.. فالتلاحم بين الديانتين الإسلامية والمسيحية وبين المسلمين والمسيحيين من الصعب علي أي عنصر خارجي أن يفهمه, لأنه غير متكرر في أي مكان آخر في العالم, ولذلك تستهوي من لا يعرفون أن يخوضوا فيه لذرع بذور الفتنة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد, وأن الأخوة بين المصريين بمثابة الصيد في ماء يعكرونه, ويتصورون أنه ماء عكر في مصر, فالمصريون لا يعرفون عندما يتعاملون معا هذه الفكرة المسبقة كل ما يعرفونه أنهم جميعا بلا طوائف, وأنهم جميعا يشربون من ماء نهر النيل الذي سوف يحافظون عليه نقيا ليكون شرابا طهورا لكل الناس. وعندما فشلوا في الاصطياد عبر الأديان.. لجأوا لنماذج مختلفة للتقسيم, فيتكلمون عن وجود أزمة عرقية أو قضية النوبة.. وهذا لا يحتاج إلي أي رد من المصريين.. فالنوبة هي أصل مصر.. كما أن المسيحية جزء أصيل من المجتمع المصري. *** ولعل أغرب أنواع اللعبات لإشاعة الفتنة والفوضي في مصر كل المقارنات المعيبة بين مصر.. وما يحدث في المغرب العربي.. سواء في تونس أو الجزائر.. فتلك تكشف عمق الأزمة لدي صانع الفتن والأزمات أو محطات تليفزيونية عربية أو أجنبية لديها مخططات وأجندة مركزة.. وقد هالها عمق فهم المصريين لما يحدث في تونس.. لقد خبرنا الثورات عبر تاريخنا الطويل.. ونعرف معناها تماما, ولا يمكن مقارنة ثورتنا الكبري ضد الاستعمار في1919 وثورة يوليو أو التغيير الحقيقي بعد عام1952 بما يحدث في تونس.. فالمصريون يعملون ويتغيرون كل يوم.. ويواجهون الفساد بالقانون, ويتصدون للمتغيرات والأزمات العالمية والاقتصادية والمالية بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستمرة, ويدركون أن استخدام الشعب في لعبة الثورات لعبة مكشوفة للجميع, فالانقلابات لها أشكال متعددة. أما الإصلاحات والتغيير الحقيقي فله شكل واحد, والمصريون يمارسونه يوميا بل كل ساعة, فمساحات الحرية مفتوحة ومشكلاتنا معلنة.. تتحدث عنها الصحف والتليفزيونات, فمصر دولة مفتوحة للجميع, وهذا يزعج الدول المغلقة ومازال يقلقها.. فهم لا يتحملون الحرية بأي شكل من أشكالها, ولكننا نتحملها ونتطور في ظلها فلا خوف علي مجتمعنا. ولكن لعل ما نقف له كثيرا من التقدير للتجربة المصرية في الإصلاح والتطور والنمو أنها تحارب وتعمل علي كل الجبهات. فالتركيز داخليا لم يعفها من المسئولية الخارجية عن المنطقة كلها, فمصر المهمومة بمستوي معيشة المصريين والدولة الكبري80 مليون بكل مشكلاتهم وتبعات التطور الاقتصادي والرعاية الاجتماعية التي تستحوذ علي أكبر نصيب من الموارد المصرية المحدودة, حتي وصل الدعم إلي أكثر من ثلث الميزانية المصرية, كما أنها الدولة التي تتحمل تكاليف تعليم وصحة كل المصريين برغم مواردها المحدودة. وفي ظل ذلك فإن رسالتها لدول المنطقة لم تتأخر ومتابعتها لقضاياها المصيرية مستمرة. فهي الأكثر انخراطا في متابعة قضية العرب الكبري, القضية الفلسطينية وتخفف وتتابع الأزمة السودانية, ووقفت ضد التدخلات الإيرانية في العراق ولبنان واليمن. ولم تكن مصادفة أن تكون في وسط معمعة الإضرابات في منطقتنا أن تخرج رسالة قوية من مدينة شرم الشيخ المصرية مدينة السلام.. عقب مؤتمر القمة الاقتصادية والتنموية العربية الثانية, وهي القمة التي دعي العرب لها بناء علي مبادرة مصرية كويتية بعدما انعقدت قمتهم الأولي في الكويت2007, والتي ركزت علي إقامة بنية أساسية إقليمية تساعد علي التنمية والتطور في بلادنا. وسوف يحسب للمصريين أنهم رغم كل الظروف والمشكلات والمعاناة داخليا وإقليميا وعالميا فهم لا يتوقفون عن متابعة جهودهم الإصلاحية لإنقاذ المجتمعات العربية جميعا ووضعها علي طريق الإصلاح عبر مواجهة المشكلات السياسية والأخطاء التي ترتكب في كل بلادنا. وعبر حثهم علي التعاون التضامني, ولكن رسالة مؤتمر شرم الشيخ الأربعاء16 يناير2011 سوف تظل محفورة في الضمير المصري والعربي العام والخاص, فقد ركزت علي التنمية والتعاون الاقتصادي وقدمت الإطار التنفيذي عبر القطاع الخاص ومنحته دورا رئيسيا في تنفيذ المشروعات, ودعت الشركات الكبري العربية للمشاركة, وأكدت أهمية النمو وإقامة المشروعات لمكافحة المشكلات خاصة أزمة البطالة ونقص الغذاء في المنطقة العربية مركزة علي الشباب العربي, وهو أغلي ما نمتلكه من ثروات وموارد, ويجب أن نوجه كل الثروات العربية والموارد الطبيعية من أراض أو بترول إلي تحقيق نمو يضمن مستقبلا لإقليمنا وللبلاد العربية وللشباب العربي في الأساس, ولا نطحنه بأزمات السياسة أو لعبات الأمم, وتحت معاول الهدم والاضطرابات والفوضي ونشغله بانعكاسات ذلك علي أوضاعه الداخلية.. ونلعب علي آماله وطموحاته بمستقبل أفضل ثم نطحنه تحت معاول المافيا العالمية والفساد الصعب أو التيارات المتطرفة. ............................................................... رسالة قمة شرم الشيخ.. لم يتسرب إليها اليأس أو تخرج عن هدفها فوضعت نصب أعينها تغييرا حقيقيا في قدرة الاقتصاديات العربية علي استيعاب طموحات ورغبات أبنائها ومواطنيها بإصلاح وتعاون اقتصادي منظم ومتدرج ولم تقع فريسة للشعارات, ولكنها وضعت برنامجا منظما وإطارا تنفيذيا لتحقيقه عبر الشركات العربية والقطاع الخاص وبأيدي الشباب العربي المستفيد الأول من الإصلاحات والسياسات الاقتصادية الجديدة. كانت قمة شرم الشيخ برغم سرعتها وعدم مشاركة عدد كبير من القادة العرب لظروف خاصة كثيرة ومتنوعة, ولكنها كانت مؤثرة. ولاشك برغم ان تجارب العرب في التنمية والتعاون المشترك مرت بظروف صعبة وقاسية ولم تنجح لأسباب عديدة فإن رسالة شرم الشيخ كانت بليغة برغم سرعتها وقلة عباراتها, لأن مصر القيادة والحكومة كانت وراءها فعبرت بها ببلاغة وعبرة الزمان والتجارب المتعددة واستطاعت أن تعيد إنعاش الحلم العربي الكبير. وسط الأزمات والكوارث. ويجب ان أتوقف أمام الروح الوثابة والقدرة علي قراءة المستقبل التي ظهرت في خطاب الرئيس مبارك للقمة التي أوجزها في أن السلام آت لا محالة, مهما بلغت مراوغات الاحتلال, وأن التنمية الشاملة العربية آتية لا محالة.. مهما تكن الصعوبات والتحديات. ولنمض في ذلك واثقين فيما يمتلكه أكثر من350 مليون عربي من طاقات وموارد وما نمتلكه جميعا من شعوب وقادة من الإرادة والعزم والتصميم. [email protected]