ورث الرئيس حسني مبارك تركة السادات الثقيلة, وشرع فور توليه المسئولية في تضميد الجراح التي تسبب فيها السادات بقرارات سبتمبر المتهورة, فأفرج عن رموز المعارضة التي زج بها السادات في السجون التي جمعت ما بين أقصي اليمين وأقصي اليسار, ونجح مبارك في عقد مصالحة وطنية, كانت فأل خير ببداية عهده ولكن التركة الثقيلة لم يخف حملها, فقد كانت تيارات الإسلام السياسي قد بسطت نفوذها علي شباب الجماعات التي انتشرت بينهم, مكتسحة غيرها من التيارات الموجودة بين الطلاب, خصوصا في جامعات الصعيد, فضلا عن تغلغل ممثليها في النقابات والاتحادات, بالإضافة إلي التعليم والقضاء. وظل صوت دعاة الدولة الدينية عاليا, ملحا علي أسلمة كل شيء, ابتداء من الدستور مرورا بالقوانين, وليس انتهاء بالتعليم الذي أصبح ساحة مباحة لنفوذ جماعات الإسلام السياسي أما الحزب الوطني الذي أسسه السادات فلم يكن في وضع أفضل, فقد تسرب إليه عدد غير قليل من المنافقين والانتهازيين بحكم كونه حزب الرئيس, والطريق الأسرع إلي التقرب من المؤسسة الرئاسية والإفادة منها وما له دلالة خاصة انعقاد المؤتمر الاقتصادي لبحث مستقبل مصر بحضور الرئيس مبارك نفسه, وكانت توجهات الاقتصاد الحر هي الغالبة, والتي تبنتها الدولة, فأصبحت الاشتراكية وما يرتبط بها أو يلزم عنها بعض زمن جميل مضي, وتزايد فتح الأبواب للرأسمال المحلي والأجنبي كي ترتفع معدلات الاستثمار التي تصب في اتجاه التنمية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل للجميع, فنسوا أهمية التنمية الشاملة التي تغدو الثقافة مكونا أساسيا من مكوناتها, ودافعا حيويا في دفعها إلي الأمام وهو اتجاه دفع إلي غلبة نزوع اقتصادي, تجاهل دور الثقافة والتعليم والفكر في عملية التقدم, فضاق أفق التخطيط الاستراتيجي للدولة بما تركز علي المضي في سياسات الانفتاح الاقتصادي بعد ترشيدها, وتغليب الاقتصاد علي غيره. وارتبطت المسيرة العملية للإصلاح الاقتصادي بعدد من السلبيات التي أدت, تدريجيا, إلي زيادة الأغنياء غني والفقراء فقرا ولم يحدث علاج جذري لهذه السلبيات يحقق نوعا مفيدا من التوازن الاجتماعي المرتبط بحرية رأس المال وتحقيق العدالة الاجتماعية للفقراء الذين بدا أن الجميع ينسونهم في التخطيط لكل سياسة تنموية اقتصادية الطابع, تتضاءل فيها مشروعات التصنيع الثقيل بالقياس إلي المشروعات الخدمية والمقاولات وما أشبه وتضخم القطاع الخاص, أملا في تحقيق تنمية أسرع, لكن دون ضوابط تحد من مخاطر الحرية المطلقة لرأس المال الفردي بما يؤدي إلي الاحتكار أو الإفساد, خصوصا في الدائرة التي تتقارب فيها السلطة السياسية والثروة بما يدني بالاثنين إلي حال من الاتحاد ولم يكن من المصادفة أن ينضم ممثلو الرأسمالية إلي الحزب الحاكم, ويحتلوا مواقع قيادية فيه, وذلك في سياق تختلط فيه المصلحة العامة بالخاصة, أو تكون الثانية مقدمة علي الأولي وهو الأمر الذي جعل من الرأسمالية الجديدة رموز المجتمع ونجومه التي أصبحت قدوة للشباب الذي استبدل التطلع إليها بالتطلع القديم إلي كبار المثففين والمفكرين, فأصبحت القيمة والوجاهة الاجتماعية قرينة الثروة, مهما كان مصدرها أو طرائق الوصول إليها ولكن لابد من الاحتراز في هذا السياق, وتأكيد إيماني بأن في الرأسماليين المصريين من تشرف به بلده, وما يسهم بأمواله في صالح الوطن وتقدمه ولكن هذا النموذج ليس هو السائد للأسف, ولا يزال عدد من أزماتنا الاقتصادية يرجع إلي الزواج غير الشرعي بين السلطة ورأس المال الذي يتوحش إذا لم تنضبط حركته بقوانين عادلة وضرائب تصاعدية وذلك احتراس لابد أن أقرنه بالدور الاجتماعي المتضائل للدولة, خصوصا في رعاية الفقراء الذين أصبحوا أغلبية الشعب المصري, وهو دور بالغ القصور, خصوصا إذا عرفنا أنه في دول رأسمالية, مثل فرنسا وإنجلترا, فإن نظام التأمين الصحي الذي ترعاه الدولة شامل ويغطي كل الأمراض, أما في الولاياتالمتحدة فالتأمين الاجتماعي ومعونة البطالة مسئولية الدولة الرأسمالية الكبري التي لا تتخلي عنها. وقد أدي التداخل بين السلطة السياسية ورأس المال إلي دخول مصر قوائم الدول التي تعاني من انعدام الشفافية والأزمات الاقتصادية والحق أنه لولا وجود الرئيس مبارك الذي تربي في شريحة من شرائح الطبقة الوسطي وعرف معاناتها لما كان هناك أي سند للفقراء في الحكومات المتعاقبة التي تبدو كأنها لا تأبه بفقراء هذه الأمة الذين ما عادوا يجدون ما يسد الرمق, وما أدي إلي تحول ملحوظ في تركيب الطبقة الوسطي, خصوصا بعد أن عرفت شرائحها العليا الطرق الملتوية لتلحق بالطبقة الرأسمالية, بينما انحدرت شرائحها الدنيا إلي مستويات الطبقة العاملة, فأصبحنا نسمع عن مدرسين يعملون سائقي تاكسيات خارج العمل, وموظفين يعملون في حرف عديدة, كما لو كان الفارق بين الشرائح الدنيا والطبقة العمالية قد انداح, في موازاة اندياح مماثل فيمن يرجعون إلي أصول فلاحية وفي هذا ما يدل علي تغير التركيبة الاقتصادية للطبقة الوسطي ودليل ذلك ما أوضحه تقرير أعده معهد التخطيط القومي عن زيادة مخيفة في نسبة السكان الواقعين تحت خط الفقر الغذائي, وهو ما يسمي بالفقر المدقع, وأن ما لا يقل عن خمسة ملايين مواطن لا يحصلون علي ما يكفي للإنفاق علي مجرد الحد الأدني الضروري من الغذاء, وذلك في سياق النسبة العامة التي تؤكد أن42% من المصريين تحت خط الفقر. وليست القضية في تزايد فقر الطبقة الوسطي ماديا فحسب, فقد اقترن فقر المال بفقر الفكر وخواء العقل, نتيجة غياب استراتيجية فاعلة لتثقيف الوعي الجمعي لأبناء المجتمع كله والنتيجة عقول متخلفة للشباب الذي تعلم في الزمن الساداتي, وتخرج في هذا الزمان ليجد نفسه بلا عمل وبلا ثقافة تحميه اجتماعيا ودينيا, فانتهي به الأمر إلي الوقوع فريسة لجماعات الإسلام السياسي بأجهزتها الإيديولوجية الفاعلة التي تملأ رأسه بأفكار التطرف الديني, وتحشوه بما يؤكد أن ما يعانيه من أزمات اقتصادية وحشية يرجع إلي أنه يعيش في دولة كافرة, وأنه لن يصل إلي بر الأمان, ويجاوز حد الفقر المدقع إلا إذا تمسك بالفكر الإسلامي الذي تحدده له, وتزرعه في وعيه, وترسخه مع التلويح بجنان الدولة الدينية التي تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. وكانت النتيجة إصابة عقل الطبقة الوسطي بداء التديين الذي يحشر الدين في أمور الدنيا مهما صغرت, ناسيا المأثور الإسلامي الذي علمنا أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا, ولآخرتنا كأننا نموت غدا ومع شيوع آفة التديين, اقترن التعصب والتطرف بانعدام التسامح حتي بين أبناء الدين الواحد, ونسي الجميع ما نسب إلي الإمام مالك من قوله إذا ورد قول من قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها, ويحتمل الإيمان من وجه واحد, حمل علي الإيمان ولم يحمل علي الكفر وتجاهل الكثيرون ما توارثناه من حض علي الاجتهاد الديني والفكري بوجه عام, وأن المجتهد له أجر حتي لو أخطأ, فحق الخطأ فكريا حق مقرر في الإسلام الذي لم نعد نعرفه علي حقيقته السمحة, مع التطرف الذي أشاعته جماعات الإسلام السياسي التي ولد تطرفها رد فعل أدي إلي الاحتقان الطائفي الذي لم نعرفه إلا بعد أن تحالف السادات مع الإخوان المسلمين للقضاء علي خصومه, ففتح أبواب محنة خلط السياسة بالدين, واستخدام الدين في السياسة. وكان من الطبيعي أن ينهار التعليم منذ الزمن الساداتي, ويستمر الانهيار مع طريق التنمية الاقتصادية الذي اختير, فأدي إلي ما أدي إليه من انهيارات موازية في كل شيء, خصوصا في عقل الطبقة الوسطي الذي أصابه العطب منذ اختيار طريق واحد للتنمية, هو الطريق المرضي عنه من البنك الدولي والولاياتالمتحدة, مع أن هناك دولا آسيوية كانت أكثر تخلفا منا لجأت إلي طرق مغايرة في التنمية, فوصلت إلي ما لا نحلم به وليت قراء هذا المقال يقرأون ما كتبه الدكتور كيشور محبوباني في كتابه الذي ترجمه سمير كريم وقدم له الدكتور محمود محيي الدين, وزير الاستثمار السابق, ليعرف هؤلاء القراء تعدد طرق التنمية الذي اكتشفته نمور نصف العالم الآسيوي الجديد ومنها الصين التي لم تر تعارضا بين التزامها بالماركسية وإفادتها من الآليات الناجحة لاقتصاد السوق الحر, مقرونة بأدوات العلم والتكنولوجيا, فضلا عن تقديس الجدارة والكفاءة الفردية, واحترام سيادة القانون, وقبل ذلك التعليم الناجح. ولذلك عندما سئل رئيس وزراء الصين عن كيفية الجمع بين النظام الماركسي والقيم الغربية الرأسمالية المؤدية إلي التقدم أجاب بقوله ليس المهم لون القط, وإنما قدرته علي اصطياد الفئران. وها هي الصين تحقق معدلات معجزة في التنمية لا تحققها أمريكا نفسها, وإلي جانبها كوريا الجنوبية وماليزيا التي بدأ مهاتير محمد صنع معجزتها بتثوير التعليم سنة.1982 والحق أن انهيار التعليم, مقترنا بتخلف الأجهزة الإيديولوجية للدولة التي لا تعرف لوازم الدولة المدنية الحديثة حقا, أو تتجاهلها, فضلا عن النفوذ المتزايد لجماعات الإسلام السياسي التي أشاعت تخلفا فكريا, أضاف إلي كارثة فقر الفكر المرتبط بالتعصب فكر الفقر المرتبط بتدني الذوق الجمالي وانحداره, وشيوع العنف في السلوك واعتياد القذارة في الطرقات, ما جعل عقل الطبقة الوسطي يتزايد تخلفا علي تخلف, وسباتا علي سبات, خصوصا علي المستوي السياسي, فهذا العقل لم يعد يثق في أي وعود سياسية من الأنظمة المتعاقبة, فأراح نفسه وتجنب الانتخابات التي يعرف نتيجتها مقدما, وآثر التواكل والتكاسل, وبحث عن حلول ملتوية لحل المشاكل الفردية, فأصبح يبرر لأفراده الانتهازية, بالقدر الذي أصبح يقبل الفكر الديني المتخلف والحياة السياسية المعتلة, وذلك منذ أن تم تدجين هذا العقل وتعلم الإذعان لرجل الدين مهما كان جاهلا, وللسلطان مهما كان ظالما, خصوصا بعد أن لقنته السلفية أنه لا تجوز الثورة علي الحاكم, وإن جار, وانتهي به الحال إلي أن لا يجد من يشكو إليه إلا خالقه, مستسلما لأوامر من نصبوا أنفسهم أوصياء علي دينه ودنياه, فحجبوا النساء ونقبوهن, ولم ينسوا أن يسدلوا حجاب العقل ونقابه علي الوعي الجمعي للأمة.