أثار التفجير الإرهابي الذي شهدته مدينة الإسكندرية صبيحة عيد الميلاد وأسفر عن مقتل23 شخصا ونحو80 مصابا تساؤلات كثيرة عن الجهة التي نفذته خاصة بعد أن أطلق البعض العنان لخياله واتهم بشكل عشوائي كل الخارج والداخل دون أي سند أو دليل. وقد دلت مجموعة من المؤشرات الأولية علي أن القاعدة قد تكون وراء هذه العملية, ولكن يبقي السؤال بأي معني؟ الحقيقة أن تنظيم القاعدة شهد تحولات عميقة عقب اعتداءات11 سبتمبر, وتحول من تنظيم مركزي إلي خلايا وجماعات لا تحركها فقط الفكرة المركزية( الجهادية أو بالأحري التكفيرية) التقليدية لتنظيم القاعدة, إنما أيضا سياقات الواقع السياسي والاجتماعي المحيط بها, فالطائفية والمذهبية حاضرة بقوة في معارك تنظيم القاعدة في العراق, وضعف الدولة في اليمن ومشاكل الجنوب أنعش الفرع اليمني, وأصبح تنظيم القاعدة التاريخي الموجود في المناطق الحدودية والقبلية بين أفغانستان وباكستان ويقوده أسامة بن لادن وأيمن الظواهري أمثولة ونهجا أكثر منه بنية تنظيمية قادرة علي تحريك باقي الفروع بالأمر المباشر. والحقيقة أن انتشار الشكل الثاني من تنظيم القاعدة والمتمثل في الفروع الموجودة في البلدان التي تضعف فيها شرعية الدولة وتعجز عن بسط سيطرتها الأمنية بشكل كامل علي ترابها الوطني مثل العراق واليمن والصومال( الأخيرة تغيب فيها الدولة بشكل كامل), ومنطقة الساحل والصحراء في النيجر حيث سقط مؤخرا الرهينتان الفرنسيتان, بعد أن أصبحت هذه المنطقة مأوي لفلول تنظيم القاعدة عقب نجاح الدولة الجزائرية ومعها المغربية في دحرهم خارج الحدود فاختاروا مناطق تضعف فيها سلطة الدولة بعد مواجهه قاسية مع الحكومة الجزائرية, وأيضا عقب سلسلة من العمليات الإرهابية أهمها عملية الجماعات السلفية الجهادية في الدارالبيضاء في المغرب في2003, وعدد من العمليات الأخري في الجزائر. أما الصورة الثالثة لنشاط القاعدة فهي تتمثل في خلايا العملية الواحدة التي يمكن زرعها في بعض البلدان, أو نقلها جوا أو بحرا بعد عملية إعداد وتأهيل عقائدية قصيرة في اليمن أو العراق, وهنا تظهر أسماء مثل أنور العولقي في اليمن أو مختار بلمختار في موريتانيا, أو جودان القائد في الصومال وغيرهم. وهنا سنجد عملية النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب في ليلة رأس السنة الميلادية في2009 نموذجا بارزا لتلك الحالة الجديدة, فالشاب الذي لم يتجاوز عمره20 عاما وهو ابن أسرة ثرية درس في بريطانيا وعاش في أمريكا, ومع ذلك نجح الإمام اليمني أنور العولقي في تجنيده لحساب القاعدة, وقام بمفرده بمحاولة خطف الطائرة الأمريكية المتجهة من أمستردام إلي الولاياتالمتحدة بغرض تفجيرها. إن نموذج عمر الفاروق تكرر في أكثر من تجربة للقاعدة سواء التي جرت مؤخرا في السويد أو قبلها بوضع مواد كيميائية مع أحد ركاب طائرة, أو ما تردد عن طرود مفخخة بعضها يمكن أن يحسب علي القاعدة, وكان المتهم في كل هذه الحالات ليس تنظيم القاعدة المركزي إنما التنظيمات الفرعية عبر منفذين قد يكونوا شخصا واحدا أو خلية محدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. والحقيقة أن عملية الإسكندرية تدل المؤشرات الأولية أن بصمة القاعدة حاضرة من خلال هذا النموذج الثالث أي أن منفذها قد يكون من عناصر العملية الواحدة المرتبطة بأحد فروع القاعدة دون الحاجة لوجود لتنظيم جرار للقيام بهذه الجريمة. إن أحد الأوهام الرائجة في بعض التحليلات العربية والغربية تقوم علي أن أي جريمة إرهابية من هذا النوع تستلزم وجود تنظيم كبير بنفس الحجم الذي عرفناه في مصر مع تنظيمي الجهاد والجماعة الإسلامية في ثمانينيات القرن الماضي, وهو أمر غير صحيح وليس له علاقة بالتطورات التي جرت علي تنظيم القاعدة, وكيف أدي انكسار تنظيمه المركزي إلي تحوله لخلايا صغيرة قادرة بشخص واحد أن تؤذي المئات وربما الآلاف من الناس. والمؤكد أن معضلة الأجيال الجديدة المرتبطة بالقاعدة أنها لا تمتلك إستراتيجية واضحة تجاه النظم القائمة ولا بديلا فكريا وعقائديا لها كما فعلت التنظيمات الجهادية في ثمانينيات القرن الماضي, حين دخلت في مواجهات قاسية مع نظم الحكم في مصر والجزائر بغرض إسقاطها وفشلت, ونجحت هذه النظم في إنهاء قدرتها علي ممارسة أي نوع جديد من العمليات الإرهابية. وقد تغير شكل الإرهاب ودوافعه في السنوات العشر الأخيرة عن الذي شاهدناها في العقود السابقة, فهو أولا يغلب عليه الطابع الفردي لأشخاص لا ينتمون إلي أي من التنظيمات الجهادية الكبري وليس لهم أي رغبة أو حتي حرص علي صياغة مشروع فكري أو عقائدي يوضح الهدف النهائي من ممارسة هذا العنف, وهم لا يتحملون البقاء في تنظيم محكم بهيراركية صارمة, ولذا فأن علاقتهم بالقاعدة هي علاقة عبر النت تحكمها استقلالية تنظيمية واسعة, أدت إلي جعل الجهاد في الحالة الجديدة مهمة فردية تمثل نوع من الخلاص الفردي الذي يصنع أو ويبرر حادثة فردية, ولا يحمل أي رؤية جماعية أو مشاريع عامة لتغيير المجتمع أو إسقاط النظام, إنما الانتقام من الجميع: المجتمع والنظام السياسي والطوائف الدينية الأخري. إن بصمة القاعدة في عملية الإسكندرية تبدو حاضرة من زاوية التهديد المسبق بتفجير الكنائس من قبل أحد تنظيمات القاعدة البارزة في العراق, وأيضا من زاوية الاحترافية التي اتسم بها هذا العمل من حيث حجم المواد المتفجرة خاصة إذا قارناها بعمليات العنف العشوائي والبدائي لأشخاص هواة كتلك التي رأيناها في الحسين وميدان عبد المنعم رياض, بالإضافة لاختيار التوقيت عقب انتهاء الصلاة في كنيسة القديسين, وبعد نصف ساعة من بداية العام الجديد, وهي كلها أمور تدل علي أن هناك عقل احترافيا بمستوي تنظيم القاعدة خطط لهذه العملية أما المنفذون فقد يكونوا شخصا أو شخصين علي الأكثر, وليس تنظيما واسع الانتشار. إن أخطر ما يمكن القيام به في التعامل مع حادث من هذا النوع هو تجاهل أبعاده الإرهابية المؤكدة ومحاولة حشره في قالب طائفي ضيق, فيصر البعض علي أن من خططوا له جماعات إجرامية طائفية, وهو أمر مستبعد في هذه الحادثة وغير مستبعد في حادثه نجع حمادي مثلا ولا غيرها من الحوادث الطائفية التي شهدتها مصر وعكست أزمة طائفية في علاقة المسلمين بالأقباط. إن إرهاب القاعدة يجب التعامل معه علي إنه إرهاب استهدف هذه المرة مسيحيين وقد يستهدف المرة القادمة مسلمين, ولكن دون أن يعني ذلك إنه لا توجد مشكلة طائفية في مصر تستلزم مراجعة كثير من السياسات الرسمية حتي نحافظ علي الدولة والمجتمع من خطر الإرهاب والطائفية معا.