سعي البعض في العالم العربي وعواصم عدة طيلة الأيام الماضية إلي الربط بين ما يحدث في تونس من توترات ومظاهرات وأعمال شغب وانتقال عدواه علي الفور إلي الجزائر, ونظرا لخصوصية وتفرد المجتمع الجزائري في دوامة الأزمات فهذا الربط في غير محله مضمونا وموضوعا ولا محل له من الإعراب السياسي. فالجزائر حالة خاصة, حيث إن دورة الاضطرابات والمظاهرات والانتفاضات تكاد تكون تمرينا يوميا للجزائريين وهم دوما يحوذون قصب السبق. الجزائر هو ذلك الفريد العجيب حامل المتناقضات يملك210 مليارات دولار احتياطي الداخل القومي حتي أمس أودعها بوتفليقة في البنك المركزي الأمريكي باسم الدولة الجزائرية منذ عام2007 بعد أن حولها إلي سندات خزانة أمريكية خوفا من غول الفساد الذي يخالط الماء والهواء في هذا البلد, حتي إن وزير المالية ظهر في لقاء نادر علي شاشة اليتيمة محطة تليفزيون الدولة الوحيدة وفقا لتسمية وتصنيف الجزائريين أنفسهم في نهاية عام2008 منتشيا بأن خزانة الدولة تتلقي أسبوعيا5 مليارات دولار حصيلة بيع وتصدير البترول والغاز منذ ارتفاع أسعاره, ولكن عن المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحدث ولا حرج بطالة وفقر وفساد تجاوز الأعناق وقارب عنان السماء, وانسداد سياسي لا حدود له, وغياب الأفق الاقتصادي والتنموي الذي تحول ببراعة إلي أزمة تسيير قاربت الكارثة لمقدرات وموارد الدولة منذ20 عاما وأكثر. فالوضع في الجزائر الآن واندلاع مظاهرات الغضب وانتفاضة الغلاء ورفع الأسعار وما أدي إلي مقتل4 أفراد وإصابة أكثر من400 شخص, والبقية تأتي, هو أشبه بالليلة البارحة, حيث كانت مظاهرات الجوع في أكتوبر عام1988 التي قتل فيها أكثر من150 شخصا حسب الإحصائيات الرسمية وتقديرات المراقبين عدة مئات, ومظاهرات عام1991 في أثناء تعطيل المسار السياسي الانتخابي, والردة عن العملية الديمقراطية فقتل أكثر من150 ألفا واندلاع غول الإرهاب الذي أكل الأخضر واليابس في هذا البلد, فضلا عن اختفاء150 ألف شخص مازالوا طبقا لأحصائية الدولة في عداد المفقودين حتي الآن نتيجة تلك الجريمة وضربات عصابات الإرهاب والموت الجوال الذي طال وانطلق في48 ولاية جزائرية لمدة15 عاما وأكثر دون توقف. الآن وطبقا لعقيدة الجزائريين, فإن كل مظاهرات الغضب والانتفاضات هذه هي نتاج صراع الأجنحة السياسية والعسكرية داخل دواليب ومؤسسات الدولة الجزائرية والبدء بدورة تصفية الحسابات حتي إن قيادات الدولة حاليا أوعزوا للداخل الجزائري بأن ما يحدث حاليا من توتر وعنف وقلاقل يعبر عن نار تحت الرماد ويتجاوز مسألة رفع الأسعار وغلاء الحياة المعيشية هناك, فقد قالها صراحة أمس الأول عبدالعزيز بلخادم وزير الدولة والممثل الشخصي للرئيس بوتفليقة رسميا والأمين العام لحزب الأغلبية الكاسح, جبهة التحرير, والمقرب إلي عقل وقلب بوتفليقة, وحامل أسراره إن هناك طبخة ما تعد حاليا ضد الرئيس بوتفليقة في الجزائر. عبارة تعني وتحمل كثيرا من المعاني وتغني عن الجهد لمتابعة تفاصيل دراما الاحتقان والغضب هذه المرة في شوارع الجزائر, وتصب في خانة عودة غير حميمة لصراع الأجنحة هذه الأيام من جديد, حيث إن هناك جهات في المؤسسة الأمنية والعسكرية صاحبة القوة والنفوذ والقرار في الجزائر قد ضاقت ذرعا ببوتفليقة, وتري أن هناك تعارضا للمصالح حاليا, فضلا عن فريق آخر يري أنه يحقق برنامج الإصلاحات الاقتصادية والتنموية المأمول منه علي الرغم من أنه رصد أكثر من150 مليار دولار في السنوات الخمس الماضية لمشروع إصلاحي كاسح في الجزائر, ولكن من أسف لم يلمس الجزائريين آثاره حتي هذه اللحظة, حيث الفقر مازال سيد الموقف, وبطالة30% من الجزائريين. كثيرون حاليا في الجزائر وأنا معهم خبرت التركيبة السياسية وعايشت صراع الأجنحة هذه في الجزائر لمدة تقارب السنوات الأربع أميل إلي القول إلي ما يحدث حاليا رسالة سياسية للرئيس بوتفليقة من الجناح الأكبر والأقوي في البلاد مفادها أن العمر السياسي لرئاسة الرئيس قد أخذ في النفاد وربما اقترب من الأفول في أي لحظة خاصة أن الرئيس قد سعي جاهدا طيلة الفترة الماضية لتجفيف منابع الفساد وضرب مصالحهم وقطع الطريق علي مغامراتهم للسيطرة والاستحواذ علي القرار الرئاسي وتعطيل مصالحهم ومشاريعهم الخاصة, وبالتالي فك أوصال هذه اللوبيات داخل المؤسسات الكبري في الدولة, وهذا النهج لم يعد يعجبهم, وبالتالي حان الوقت لفرملة طموحات وجهود بوتفليقة للإمساك والإحاطة بالقرار في الجزائر وحده. فضلا عن أن هذا الجناح الأكبر والأقوي أراد من وراء تسيير هذه المظاهرات وهو يعلم ويملك تماما توقيت ضبطها ووقفها إفشال مشروع بوتفليقة لأنصاره في جبهة التحرير والمؤسسة السياسية لإطالة أمد الترشيح لمدد الرئاسة له إلي نهاية العمر, وجعل عهدة فترات الحكم والرئاسة مفتوحة ودون قيد أو شرط, ناهيك عن الرغبة في قتل طموح فريق من المقربين من بوتفليقة بإمكان تزكية شقيقه سعد ومستشاره الأول لتولي المسئولية والحكم من بعده, خاصة أن فريق جناح الجنرالات هذا يراهن ويعد أحمد أويحيي رئيس الحكومة لخلافة بوتفليقة في أي لحظة, وهو الرجل القوي حاليا في البلاد والمتناهي دوما مع طموحات وأهداف الجناح الأقوي ورجلهم الأول. وبالتالي تظل مظاهرات الجزائر حاليا هي قمة رأس جبل الجليد لكنها تخفي وراءها صراعا سياسيا وأيضا بين أجنحة الحكم في الجزائر.. لا أحد يستطيع التنبؤ بكتابة نهايته هذه المرة وربما تتوقف مظاهرات الأسعار وتنفض اليوم أو غدا بعد قرار الحكومة المفاجيء ليلة أمس الأول إلغاء والعدول عن قرارات رفع الأسعار, ولكن يبقي صراع الأجنحة قائما ومتوترا ولا أحد يعلم ساعة الحسم, ولذا تبقي كل النهايات مفتوحة ومتوقعة في الجزائر طيلة الوقت.