في حوار دبلوماسي صريح للدكتور بطرس بطرس غالي, الأمين العام السابق للأمم المتحدة وأحد حكماء القارة الإفريقية, الذي يعرف دروب وأسرار القارة السمراء من خلال علاقاته المتميزة مع الرؤساء والزعماء والدبلوماسيين داخل القارة بعد أن حمل ملف إفريقيا طوال31 عاما متصلة كأول وزير مصري للشئون الخارجية, طرح رؤية سياسية واقعية لإعادة الحياة للعلاقات بين مصر والدول الإفريقية, واستعادة الهدوء للعلاقات مع دول حوض النيل, والتعامل الايجابي المتوازن مع شطري السودان, بعد مرحلة انفصال جنوب السودان, ودور مصر في التعامل مع تحديات التنمية التي تواجه القارة الإفريقية. وأكد الدكتور بطرس غالي أهمية قيام مصر بتبني سياسات واستراتيجيات جديدة للتوجه بقوة إلي الدول الإفريقية والتقارب مع شعوبها وليس مع النخب السياسية فقط, وأشارإلي وجود أهمية لتعلم المصريين للغة السواحلية الإفريقية التي تتحدث بها غالبية الشعوب الإفريقية وعدم الاقتصار علي الانجليزية والفرنسية التي يتحدث بها الوزراء الأفارقة. وشدد علي ضرورة استعداد مصر لتوجيه الهجرة إلي إفريقيا وإرسال البعثات العلمية الي جامعاتها, والاستعداد لاحتمالات تحول دول حوض النيل إلي الري بالمياه بدلا من الاعتماد في الزراعة علي المطر لأنه سيؤثر علي حصة مصر من المياه مستقبلا, ونبه إلي أهمية قيام مصر بدور في قضايا التنمية الإفريقية وتقديم الدعم المعنوي لها في الاجتماعات الدولية لعدم قدرتها علي تقديم الدعم المالي للدول للتغلب عليها.. .. والي تفاصيل الحوار. ماهي أهم السلبيات والعيوب في علاقة مصر بالدول الإفريقية؟ العيب الأول أننا مازلنا ننظر لدول الشمال في أوروبا, مثل فرنسا وألمانيا وانجلترا وأمريكا, ونعتبرها تمثل مصدر القوة في العالم, وهذا غير صحيح الآن, فالقوة حاليا انتقلت للصين والهند والبرازيل, فعدد الفرنسيين الذين يتعلمون اللغة الصينية وصل04 ألفا بينما لم نفكر في اقامة معاهد للغة الصينية في مصر, وهو ما تكرر في أهمالنا للغة السواحلية التي تتحدث بها غالبية الدول الإفريقية ونهتم فقط باللغة الفرنسية والانجليزية التي يتحدث بها القلة الحاكمة في حين أن غالبية الشعب لايعرف اللغة الإنجليزية, والتساؤل الذي يطرح نفسه: كم عددالمصريين الذين يتعلمون اللغة الإفريقية وعدد الدبلوماسيين الذين تعلموها, واعتقادي أن سبب اهمالنا للغة الإفريقية يرجع إلي تأثرنا بالثقافة الفرنسية والانجليزية عندما كان البحر المتوسط أهم بحار العالم, والآن أصبح البحر الهندي أهم مناطق العالم, والتحدي الذي يجب أن نواجه أنفسنا به.. كيف نتطور لكي نهتم بالجنوب والشمال معا, فنحن في حاجة للجنوب في إفريقيا من أجل نهر النيل والانفجار السكاني الذي تعاني منه مصر وأهمية تفكيرها في توجيه هجرة السكان منها إلي إفريقيا بسبب قلة الأراضي الزراعية واحتمالات تغير أسلوب الزراعية. وطرح رؤية لتطوير وتدعيم علاقتنا من جديد بدول إفريقيا كيف نطور علاقتنا بدول حوض النيل؟ عن طريق استعادة مصدر قوتها بزيادة التعاون مع دول الحوض وتقديم المساعدات الفنية, والاهتمام بالدراسات الإفريقية, وتشجيع الشباب المصري علي الاهتمام بالذهاب إلي الجامعات الإفريقية, وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية, والبعثات العلمية والمنح التعليمية للدول الإفريقية والمشاركة الرسمية والشعبية في الأعياد القومية لها والاحتفالات الرئيسية, فالدول الإفريقية تحتاج إلي اهتمام شخصي من مصر مرة أخري, ويجب ألا تضعف علاقتنا بخمسين دولة إفريقية, فمثلما يذهب الوزراء يوميا إلي أوروبا يجب أن يذهبوا إلي الدول الإفريقية, فمصدر قوة مصر في عهد الرئيس عبدالناصر رجع إلي مساعدة مصر للدول الإفريقية علي استقلالها وتقديمها للأسلحة والخبرات ووجود قاسم مشترك آخر وهو حركة عدم الانحياز خلال فترة الحرب الباردة والتي انتهت الآن وأصبحت أمريكا وروسيا بينهما مصالح مشتركة. هل يوجد تغيير كبير في علاقة مصر بدول حوض النيل؟ نعم يوجد تغيير كبير بسبب عدم اهتمام السياسة الخارجية المصرية بالقارة الإفريقية, وضرورة عودة منصب وزير الشئون الإفريقية ليكون مسئولا عن العلاقات مع إفريقيا ويستطيع التأثير علي الرأي العام لأن وزير الخارجية ينظر إلي فرنسا وأمريكا أكثر من اهتمامه بإفريقيا, وربما يعود هذا التفكير إلي القيادة المصرية بسبب ظروف الحرب واسترداد سيناء واهتمامنا بالقضية الفلسطينية الذي جاء علي حساب اهتمامنا بإفريقيا. كيف ندعم علاقتنا من جديد بإفريقيا؟ أن يشعر الشعب الإفريقي بأن مصر تشاركه مشاكله, فالعبرة بكيفية الحوار معه وعرض المساعدة عليه خاصة في أوقات الأزمات والشدة التي تواجهه, وأن تثبت مصر اهتمامها بالقضايا التي يعاني منها, وتتابعها مما يدل علي اهتمامها به عن قرب, فالدول مثل الانسان تحتاج للرعاية, وهو نفس ماحدث عندما اهتممنا بالأوضاع الداخلية للحرب في لبنان فقد شعر اللبنانيون أننا معهم نقوي ونساند دورهم في الحفاظ علي دولتهم مما زاد عمق العلاقات المشتركة. هل الوجود الصيني في إفريقيا يؤثر علي علاقة دولها مع مصر؟ وجود الصين لن يؤثر علي مصر فالصين تبني طريقا وترسل عمالة مدربة تعمل طوال العام باستثناء خمسة أيام فقط اجازة في العام و هو دور لا تستطيع مصر القيام به, كما أن الصين ليست في تنافس معنا. كيف تساعد مصر الدول الإفريقية في مواجهة تحديات التنمية؟ أولا لا توجد إمكانات مالية كبيرة لمصر تمكنها من مساعدة الدول الإفريقية في مجال التنمية, لكنها تستطيع أن تبرز المشكلات الإفريقية والقضايا التي تعانيها خلال الاجتماعات الدولية, فإذا لم تكن لدينا الإمكانات المادية علي الأقل نستخدم الإمكانات المعنوية, ومن الصعب أن نهمل حتي الآن دولة مثل الصومال التي انهارت وانتهت طوال عشرين عاما ولم يعد لها وجود برغم ما يربطنا بها من علاقة خاصة في الإطار الإفريقي والعربي, ولم تساعد علي استعادتها لكيانها السياسي. ماهي أهم التداعيات التي يمكن أن تؤثر علي مصر بسبب انفصال جنوب السودان؟ العملية السياسية ليست سهلة بعد استفتاء تقرير المصير بجنوب السودان في9 يناير المقبل, وستظهر خلافات بين شمال السودان وجنوبه في تقسيم الحدود والبترول, وهناك توقعات سياسية بأن تساعد الخرطوم علي الخلافات في الجنوب, ومطلوب من مصر عدم الانحياز لأي طرف, وأن تؤدي دور الوسيط, وأن تهتم بمشرع جونجلي مثلا الذي تم تطبيق57% منه, فإذا لم تكن لدينا القدرة علي علاج مشكلات الجنوب والشمال علي الأقل أن تهتم بالمشروعات المشتركة معها ولا نهملها, بعد أن أهملنا منذ سنوات تطبيق مشروعات خدمية بجنوب السودان في الصحة والتعليم. ما هي أهم التحديات التي تواجه إفريقيا؟ القدرة علي استيعاب التكنولوجيا الجديدة والانفتاح علي العالم الخارجي, فلا نخاف من استقدام الأجانب, فالجاليات الأجنبية في أي دولة بمثابة الملح الضروري لها, فالجاليات المتنوعة الأجنبية كانت سببا في نهضة مصر, وأمريكا تفتح أبوابها لأي خبرة وتتيح أمامهم تولي المناصب رفيعة المستوي من رئاسة الدولة حتي رئاسة الجامعة, فثملا ساركوزي أصله مجري, وأوباما أصله إفريقي, ورئيس كندا أصله صيني, فليس عيبا أن تفتح أبوابك, لكن العيب هو سيطرة عقلية عدم الانفتاح لأنها ستجعل الدولة مستمرة في التخلف, فالبلاد التي انفتحت علي الخارج مثل جنوب إفريقيا أصحبت أكثر تقدما, فالأهم هو نتيجة وجود الأجانب في الاقتصاد والطاقة والحضارة. ما هي علاقة حقوق الإنسان بالديمقراطية؟ حقوق الإنسان ركن من أركان الديمقراطية, والديمقراطية ركن من أركان التنمية, والعبرة الآن ليست بالدفاع عن الديمقراطية داخل كل دولة, وإنما بالدفاع عن الديمقراطية دوليا, لأنها ستعالج أهم المشكلات الوطنية علي مستوي دولي خلال السنوات المقبلة ولا يمكن معالجتها علي مستوي وطني, مما يتطلب زيادة اهتمامنا بديمقراطية العلاقات الدولية, وديمقراطية الأممالمتحدة, لأنه سيكون من الصعب المطالبة بديمقراطية داخل حدود الوطن, بنيما لا توجد ديمقراطية علي المستوي الدولي, كما أنه من الخطأ أن نعتبر أنه يوجد نظام ديمقراطي واحد يطبق بالطريقة نفسها في كل دول العالم. فكل دولة لها خصائصها ومشكلاتها, والخطوة الأولي في تحقيق الديمقراطية في أي دولة هي توفير الاستقرار والسلام لأنه لا يمكن حدوثها في حالة وجود خلافات خطيرة أو حروب داخلية وأهلية, فمثلا لا نستطيع إجراء انتخابات تقليدية عادية في بعض الدول, لأن ولاء المواطن الإفريقي للقبيلة أولا وقبل ارتباطه بالدولة, وبالتالي لابد من التفكير في أسلوب جديد للديمقراطية في ظل هذه الظروف, وهو ما طبقته بعض الدول مثل رواندا وبروندي ولبنان التي قامت بتمثيل جميع الجاليات والفئات داخل المجلس النيابي. ما هي أفضل الطرق أمام مصر والدول الإفريقية لتحقيق الديمقراطية؟ الديمقراطية طريق طويل يحتاج لوقت ونوع من النضوج, وحتي لو حققت دولة ما الديمقراطية لا يعني أنها انتهت منها, فقد تحدث انتكاسة وتعود إلي نظام غير ديمقراطي, وعندما كنت رئيسا لإحدي لجان اليونسكو ظللنا ندرس لفترة طويلة علاقة التنمية بالديمقراطية لأن تحقيق التنمية الاقتصادية في الدول يحتاج إلي توافر الديمقراطية, وظل التساؤل الرئيسي: هل نبدأ بالتنمية للوصل إلي الديمقراطية أم نبدأ بتطبيق الديمقراطية لكي نحقق التنمية؟ ووجدنا أن مشكلات وأوضاع الدول الداخلية يجب أن تدخل في الاعتبار لأنها تجعلها تؤجل تطبيق النظام الديمقراطي, بالإضافة لوجود ظاهرة خطيرة أخري تصعب من العملية نفسها, وهي ثورة الاتصالات والتكنولوجيا والاختراعات الجديدة التي أوجدت متغيرات حديثة,أهمها الترابط الجديد بين جميع أطراف العالم من خلال وسائل الإعلام والإنترنت والفضائيات والتليفون التي تؤثر بدورها علي حقوق الإنسان والنظام الديمقراطي, وبالتالي فلكي تحقق الديمقراطية أنت في حاجة إلي موافقة الدول المجاورة لها من خلال الحدود المشتركة والهجرة التي تزداد في السنوات المقبلة, فمثلا وجود ستة ملايين مسلم في فرنسا له تأثير علي السياسة الداخلية الفرنسية والنظام الديمقراطي بها, كما أدي الترابط الشديد بين أطراف العالم إلي أن أغلب المشكلات الوطنية الحقوقية مثل البيئة والصحة والاتجار في البشر سوف تعالج في إطار اتفاق دولي, في الوقت الذي ثبت فيه عدم صحة المفهوم الذي تبنته السياسة الخارجية الأمريكية بأن النظام الديمقراطي لا يحارب نظاما ديمقراطيا آخر, الذي تحول إلي مفهوم دولي بأن تحقيق الديمقراطية يساعد علي تحقيق السلام أي أن الديمقراطية وسيلة لتحقيق السلام وأصبح غير صحيح في عالم اليوم. ما هي أهم المقترحات التي تتبناها لزيادة التقارب مع إفريقيا؟ عقد المنتدي العربي الإفريقي في ديسمبر المقبل لمناقشة قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية بمشاركة عدد من رؤساء مجالس حقوق الإنسان الإفريقية العربية, وشخصيات إفريقية مهتمة بحقوق الإنسان لربط مصر بالدولة الإفريقية, وهذا هو أملي, بالإضافة إلي اهتمامي بعودة التمثيل المصري للجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان الموجودة تحت مظلة الاتحاد الإفريقي, التي أهملنا لسنوات طويلة وجود تمثيل مصري بها برغم جهود مصر في إصدار الميثاق الإفريقي لحقوق الشعوب والإنسان منذ03 عاما, وقد شارك أخيرا السيد محمد فائق مدير مكتب الشكاوي في مصر كأحد المفوضين الإفريقيين الساميين لحقوق الإنسان.