فاذا كان الأمر كذلك فلن نذهب بعيدا لان هذه هي أزمة بطل فيلم بالالوان الطبيعية!. في البداية احب أن أشير إلي أننا لسنا أمام فيلم مدهش, وهناك تحفظات فنية حول المعالجة التي قدمها بالالوان الطبيعية, ولكننا بكل تأكيد أمام فيلم حقيقي ويستحق الجدل والمناقشة, لا التكفير والمصادرة, ولعل مايثار حول الفيلم يؤكد هذا المعني وليس العكس... ودعونا نتجه لقراءة الفيلم مباشرة لنضع ايدينا علي سر هذا الجدل الغاضب والصاخب. منذ خمس سنوات, قدم الثنائي هاني فوزي مؤلفا واسامة فوزي مخرجا فيلما بعنوان بحب السيما اثار ضجة مماثلة, واستعرض أكثر من قضية لعل أهمها ماظهر من عنوان الفيلم نفسه, وهي مسألة تحريم السينما, أو بمعني آخر اعتبار البعض ان مشاهدة السينما حرام, وهي قضية طرحت نفسها بقوة في الربع الاخير من القرن الماضي في المجتمع المصري ثم المجتمعات العربية بعد ذلك نتيجة ظهور ونمو اتجاهات اجتماعية محافظة واصولية, ومنذ ذلك الوقت وحتي الآن نجد من يتعامل مع الافلام السينمائية بمنطق أنها تقدم اشياء فاسدة وعارية وتخدش الحياء والحياة... ولمواجهة عملية التحريم هذه, قام صناع السينما برفع شعار ذكي وبراق من أجل حماية السينما: الصناعة والتجارة والفن عنوانه السينما النظيفة, أي الخالية من الفيلات ومشاهد العري التي جعلت الاصوليين يحرمون السينما, وكان هذا بمثابة حل وسط لارضاء الاصوليين, وعدم تكفير السينما ككل... ولكن المحصلة الاخيرة لهذا الصراع ان السينما اصبحت نظيفة أكثر مما ينبغي, فقد خلت أيضا من الافكار والمشاعر والآراء والرؤي وتحولت إلي شيء مسخ يقوم علي التجارة الاستهلاكية, واصبح الكل يتربص بها بداية من سائق التاكسي والمواطن العادي حتي نواب الشعب في البرلمان بما يقدمونه من طلبات احاطه واستجوابات!. واكب هذا استنفار عقلية التحريم للفنون الاخري, ومنذ منتصف السبعينيات اتخذت كلية الفنون الجميلة قرارا بالغاء مادة تصوير ورسم الاجساد العارية(التي يتوقف أمامها الفيلم ليعبر عن أزمة البطل, وأظنها أحد الاسباب الاساسية للهجوم عليه), ثم ظهرت اتجاهات بعد ذلك لتحريم فنون النحت ايضا... والمهم أن ما تبقي في ذهن المواطن العادي بعد الحملات التي كفرت الفنون الجميلة, أن تعليم وتعلم هذه الفنون يدعو الي قلة الادب والاباحية, وبقي هذا الامر مسكوتا عنه لسنوات, وغير قابل للمناقشة أو المراجعة, وجاء فيلم بالالوان الطبيعية ليناقش ذلك باثر رجعي. اذن فإن المخرج فوزي وهو فنان سينما وموهوب, والمؤلف هاني فوزي يعودان لمناقشة مسألة وعقلية التحريم والتطرف في المجتمع للمرة الثانية بعد بحب السيما. ولكن باثر رجعي فهي قضية مطروحة بقوة طوال السنوات الاخيرة, وقرر المجتمع تجميدها, لتطفو أحيانا عند تقديم عمل معين كما يحدث الآن ثم تعود أوراقها للارشيف والحفظ.. ومشكلة بالالوان الطبيعية أنه أعاد مناقشتها من البداية, منذ الغاء مادة رسوم الدليل العاري, أي أنه بدأ مستفزا, وأحدث نوعا من الصدمة... وكل أحداث الفيلم تدور في كلية الفنون الجميلة, وأزمة شاب موهوب في فن الرسم( كريم قاسم), تكون رغبته في دخول الكلية في بداية الفيلم كارثة كبري ترفضها بتشنج والدته ويشجبها كل الجيران( المجتمع), فالتزمت والالتزام الاخلاقي يرفضان مجرد تعلم هذه الفنون, والشاب نفسه المشبع بهذا المناخ يصف الكلية في بداية ذهابه إليها لها أنها جهنم, ويقرر اعادة الثانوية العامة ليحقق المجموع الذي يجعله يتجه لدراسة الطب, ولكنه يتراجع, ويتابع الفيلم تطور أزمة هذا الشاب طوال سنوات الدراسة الخمس.. ويتوقف الفيلم أمام ضعف العملية التعليمية ليس المقصود كلية الفنون وحدها وانشغال الاساتذة والدكاترة بمصالحهم الشخصية, ووجود الفساد والرشوة, وارتفاع اسهم الاحتراف علي حساب الموهبة والابداع... وربما من الصعب التوقف أمام الفيلم نفسه الآن في فنياته ومعالجته التي كانت وراء اثارة الجدل, فهذا يستحق مقالا آخر... ولكن دعونا نتوقف أمام نهايته التي ترصد حالة الانفصال الذي يسود المجتمع, فها هو الفتي أو الشاب يعيد اكتشاف نفسه ويحاول أن يتخلص من الاشباح التي تطارده بوضعه في مأزق دائم بين الحلال والحرام من خلال أمه والعاهرة ورجل الدين العصري والفنان الذي هرسه المجتمع فأصبح موديلا, أما الفتاة التي أحبها( يسرا اللوزي), فقد اختارت الحل الذي يجعلها تربح وتستريح حيث تحجبت ثم انتقبت... إنها قضية مجتمعنا حتي اليوم حتي لو أراد بالألوان الطبيعية أن تكون أحداثها الدرامية بأثر رجعي.