يجادل من يقولون بالدور المؤثر والطاغي للتكنولوجيا والإنترنت والشبكات الاجتماعية والمدونات وغيرها في العملية السياسية والانتخابية بأن مستخدمي الشبكة في مصر يناهزون العشرين مليون مواطن، وينتمون لشرائح عمريه شابة ذات تفكير جديد ومختلف, وشرائح اجتماعية وتعليمية جيدة المستوي تتسم بالحيوية والحركة والإقبال علي المشاركة. ومن ثم فهم يمثلون كتلة حيوية حرجة مؤثرة في الوقت الحالي ومحتمل أن تكون أكثر تأثيرا وتصبح هي الجذوة الرئيسية لعملية تغيير كبري وشاملة مستقبلا, ويستشهدون علي ذلك بالعديد من الحوادث التي جرت بمصر مدار العامين أو الثلاثة أعوام الأخيرة, وبما حدث بالعديد من دول العالم كالولايات المتحدة وإيران, لكننا- كما أوضحت الأسبوع الماضي- نري الأمر مختلفا ولا يتجاوز كونه تأثيرا هامشيا أو أكثر من هامشي. وبداية لا خلاف من حيث المبدأ مع هذه الفرضيات ولا اعتراض علي سلامتها من الناحية الفكرية والنظرية, فالتلاحم بين التكنولوجيا والديمقراطية وفعالياتها كالعملية الانتخابية والمشاركة في اتخاذ القرار والقدرة علي المحاسبة وحرية التعبير- أصبحت أمرا واقعا غير منكور, لكن الخلاف في حدود هذا التلاحم ودرجة تجسيده علي الأرض في هذا المجتمع أو ذاك, وهي أمور تتحدد وفق خصوصية كل مجتمع. وبالنسبة للمجتمع المصري والعربي عموما نستطيع أن نرصد ملمحين أساسيين لظاهرة التلاحم بين السياسة والديمقراطية والتكنولوجيا. الملمح الأول أنه من الخطأ النظر إلي عشرات الملايين من مستخدمي الإنترنت وغيرها من أدوات تكنولوجيا المعلومات باعتبارهم كتلة متجانسة ومتساوية من حيث مستوي التوظيف السياسي والديمقراطي للتكنولوجيا وأدواتها, لأن هذه الكتلة السكانية التي تصل إلي عشرين مليونا من مستخدمي الإنترنت, وأكثر من ستين مليون مستخدم للمحمول, هي كتلة منقسمة علي نفسها انقساما حادا, فالغالبية الساحقة منها ربما لم يخطر علي بالها بعد أن تستخدم ما لديها من أدوات تكنولوجية في الشأن السياسي والانتخابي من الأصل, بل تنصرف كلية إلي التوظيف الإنتاجي والخدمي والترفيهي والاستهلاكي للتكنولوجيا, وهناك شريحة واسعة تسرف في ذلك إلي حد النهم, وهذه ليست انطباعات عابرة, بل تقرير لحالة تستند إلي العديد من المؤشرات والمعطيات المحايدة. ومن هذه المؤشرات علي سبيل المثال لا الحصر أن الأرقام المسجلة علي خدمة' كلمات البحث المفتاحية' بمحرك بحث جوجل تشير إلي أن عمليات البحث المتعلقة بالسينما كالأفلام والممثلين وغيرها والصادرة عن المصريين والعرب في عام2009 قد بلغ106 ملايين و239 ألف و724 عملية بحث في المتوسط شهريا, وفي المقابل فإن عمليات البحث عن الديمقراطية بلغت247 ألفا و351 عملية في المتوسط شهريا, أي أن عمليات البحث عن السينما وأحوالها أكبر من عمليات البحث المتعلقة بقضية الديمقراطية بحوالي430 ضعفا. وتكشف الأرقام أيضا عن أن الغالبية الساحقة من عمليات البحث عن الديمقراطية تتم بكلمات عامة لا تنم عن موقف أو تعبر عن رأي أو وعي بقضية ما, وتشكل هذه النوعية91% من عمليات البحث عن الديمقراطية, أما النسبة الباقية فمنها11 ألفا و405 عمليات في المتوسط موجهة للبحث عن قضايا لها علاقة بالديمقراطية, مثل التحول الديمقراطي والإسلام والديمقراطية, والديمقراطية والشوري والتربية والديمقراطية والتغيير الديمقراطي والقيم الديمقراطية والعولمة والديمقراطية وغيرها من القضايا, أما عمليات البحث التي استهدفت التعرف علي أوضاع الديمقراطية بالدول العربية فبلغت6139 عملية في المتوسط شهريا فقط, واللافت أن قائمة كلمات البحث الخاصة بالمؤسسات الديمقراطية لم تتضمن سوي عشر كلمات, وهو ما يشير إلي أن المؤسسات الديمقراطية- كالأحزاب مثلا لا تحظي باهتمام كبير من قبل الباحثين عن المعلومات عبر الإنترنت. تدلنا هذه الأرقام علي أن الغالبية الساحقة ممن يستخدمون الإنترنت وأدوات التكنولوجيا الأخري لا يعبأون وربما لا يريدون أو لا يهتمون بتوظيفها سياسيا وديمقراطيا في الانتخابات أو غيرها, وبالتالي فإن الأغلبية الصامتة في الواقع الفعلي, تقابلها أغلبية لاهية في الواقع الافتراضي الرقمي, وهذه الأغلبية اللاهية هي عمليا خارج ما يطلق عليه البعض الكتلة الحيوية الجديدة من الجماهير الواعية الساعية للتغيير, مما يعني أن الشريحة الأكبر من العشرين مليونا الذين يستخدمون الإنترنت هم عمليا خارج سياق التوظيف السياسي لأدوات التكنولوجيا. أما الشريحة الضئيلة الباقية- التي لا تزيد في أفضل الأحوال عن بضعة مئات من الألوف- فليست متجانسة هي الأخري, فهي تقبل بمبدأ التوظيف السياسي لأدوات التكنولوجيا, وتأتي في ذلك بممارسات تطفو علي السطح في صور متعددة, كمتابعة أو تبادل للمعلومات أو تعبير عن الرأي, لكن القليل فقط من هذه الشريحة يتجاوز هذه الممارسات السابقة ويصل إلي مرحلة أكثر نضجا, كالاقتناع بفكرة والدخول في معترك نشرها والدفاع عنها عبر الفضاء الرقمي, وتحمل الأعباء المترتبة علي ذلك. ومن يصلون إلي هذه الدرجة من النضج يشكلون هم أيضا شريحة غير متجانسة, فالأغلبية منهم تكتفي بأن ينتهي دورها بالجلوس أمام شاشات الحاسب ووصلات الإنترنت, ليدونون رأيا أو يتابعون خبرا, أو يعترضون وينتقدون ويهاجمون ويوافقون ويرفضون, وينفسون عن غضبهم كما يشاءون, أي أنهم يشاركون ويتفاعلون لأقصي درجة ولكن بين جدران حجراتهم, وأقل القليل هم الذين يترجمون مواقفهم ومشاركاتهم في الفضاء الرقمي إلي فعل ميداني علي الأرض, كالانضمام لجماعات وأحزاب سياسية فاعلة, والقيام بأنشطة ذات تأثير ولها مخاطرها وأعباؤها المعروفة. لذلك فإننا عند الحديث عن التأثير السياسي للتكنولوجيا نجد أنفسنا أمام حفنة من الأفراد تقدر بالمئات وربما بالآلاف في أحسن التقديرات, وليس كتلة جماهيرية حيوية تقدر بعشرات الملايين, وهذا يفسر ضآلة ومحدودية وهامشية هذا التأثير حينما يوضع علي المحك في معترك جماهيري فعلي وليس افتراضيا كالانتخابات العامة. أما الملمح الثاني في الظاهرة فيتجسد في أن التوظيف السياسي لأدوات التكنولوجيا في المشهد المصري الراهن يبدو أشبه بمحاولة زرع أطراف صناعية باهرة المواصفات حديثة الإمكانات في جسد شبه ميت, ودون مواربة أقول أن من الأسباب الأساسية في معضلة الدور الهامشي للتكنولوجيا والإنترنت في الانتخابات وغيرها من الفعاليات الديمقراطية أن الحكومة والجهاز الإداري البيروقراطي بالدولة ككل لا يتعاملون مع التكنولوجيا والإنترنت باعتبارها فكرا جديدا وفلسفة مختلفة في إدارة العلاقة مع المواطن, بل باعتبارها مجرد أداة تحقق قدر من التجميل السطحي في صورتها أمام الجماهير والعالم مجاراة لموضة التكنولوجيا, دون المساس بما ورثته من سلطة أو ما تطبقه من طرق ومنهجيات في الأداء أو تعتنقه من رؤي لحقوقها وواجبات المواطن. ولتوضيح ذلك أقول إن التوظيف السياسي والديمقراطي المؤثر والناجح لأدوات التكنولوجيا يعني أن البنية السياسية والديمقراطية بما يخدمها من مؤسسات بيروقراطية منتشرة في أجهزة الدولة المختلفة لابد وأن تكون مهيأة ومستعدة لاستقبال مثل هذا التوظيف, إذ كيف نتوقع توظيفا مؤثرا لأدوات التكنولوجيا والناخب لا يجد كشوفا وجداول للناخبين معدة إعدادا سليما مستندا إلي أدوات التكنولوجيا المختلفة, كقاعدة بيانات الرقم القومي, ومنشورة نشرا سهلا ميسرا عبر مواقع رسمية موثوق بها بالإنترنت؟ وكيف نتوقع توظيفا مؤثرا والمرشح لا يستطيع استخدام التكنولوجيا في الوصول إلي أبسط البيانات الخاصة بناخبيه؟ وكيف نتوقع توظيف مؤثرا للتكنولوجيا وعملية التصويت تقوم في غالبية مراحلها علي منهجيات وأدوات وإجراءات تخاصم التكنولوجيا أصلا, وترفض القبول ببناء منظومات معلومات سليمة وصحيحة تدير عملية التصويت من بدايتها إلي إعلان النتائج. بعبارة أخري... البناء الخلفي والبنية التحتية التي تدير العملية الديمقراطية والانتخابات غير داعمة وغير مهيأة تهيئة سليمة من أجل إنجاز توظيف سياسي وديمقراطي مؤثر للتكنولوجيا والإنترنت, وغياب هذه التهيئة يضر من ناحيتين, فعلي مستوي الجماهير يكرس حالة الأغلبية اللاهية, ويجعل معظم حالات التوظيف قاصرة علي الحلقة الضيقة من النشطاء السياسيين والمحيطين بهم, وعلي مستوي الأداء والوظيفة يجعل الأمر قاصرا علي ما أطلقنا عليه قرع الطبول, كالمقالات الزاعقة والتقارير المصورة والفيديوية والمناقشات الحامية, وغيرها من الفعاليات التي تجري في حالة أو آلية واحدة من آليات الديمقراطية هي حرية التعبير والمحاسبة بالمكاشفة, ولذلك حينما نضع هذا التوظيف في السياق المجتمعي العام نجد أن تأثيره علي مجريات الأحداث هامشيا أو أكثر من هامشي. مثل هذا القول يراه العديد من المفكرين, كأستاذنا الكبير السيد ياسين الذي عرض رأيا قريبا من ذلك في بحث قدمه إلي الندوة السنوية لمجلة العربي الكويتية في يناير الماضي, ففي هذه الندوة التي شاركت فيها مع مجموعة من المفكرين والخبراء بالوطن العربي خلص مفكرنا الكبير إلي أنه من المبكر جدا الحديث عن وضع مؤثر المدونين السياسيين فيما يجري علي الأرض, مشيرا إلي أن تحليلاته العلمية لمضمون المدونات السياسية وأنشطتها كشفت عن خواء فكري وانفصام واضح بين ما يدور في الفضاء الرقمي وما يدور علي الأرض. واليوم أقول إن ما ساقه السيد ياسين في هذا الصدد في يناير تحقق بالفعل, وما قلته في هذا المكان في سبتمبر أكدته الأحداث الأخيرة وتجاوزته, ولذلك علينا جميعا التمهل فيما نتوقعه من دور وتأثير للتكنولوجيا والإنترنت في القضايا السياسية الداخلية الساخنة, لأن المجتمع الافتراضي المصري عبر الإنترنت بما فيه من فعاليات لا يزال أشبه بقطعة قماش شفافة تهفهف حول حجر صلد وتلامسه من حين لآخر, من دون أن تحدث به شرخا أو تفتت منه جزءا.