لم يكن الطقس الذي تحول من صيفي شديد الحرارة إلي خريفي غزير الأمطار هو الشيء الوحيد الذي شهد تغييرا في الجنوب. وذلك ما بين زيارتي أثناء الانتخابات ثم عودتي مرة أخري بعد تشكيل الحكومة فقد لمست تغيرا في تعامل الناس مع قضية الانفصال, فصور الرئيس عمر البشير التي كانت موجودة علي استحياء في بعض الأماكن لم يعد لها أثر, في حين أمتلئت الشوارع بلافتات موقعة من جماعة تحمل اسم( الشباب من أجل الانفصال) وهي تحث الحكومة علي الإسراع في تنفيذ إجراءات الاستعداد للاستفتاء, وفي الوقت الذي لمست بنفسي هدوءا كبيرا في الشارع الجنوبي أثناء الانتخابات شاهدت بعدها ولأول مرة التظاهرات بالسيارات النصف نقل والموتوسيكلات( البودا بودا) تجوب مدن الجنوب للمطالبة بإتمام الانفصال وعدم الموافقة علي تأجيله بالطبع لا يمكن الجزم بأن شعب الجنوب كله يريد الانفصال ولكن المؤكد أن النخبة الحاكمة والشباب المنخرطين في العمل السياسي يحاولون قيادة الرأي العام في هذا الاتجاه كثيرون من الذين التقيت بهم يتشوقون لفكرة التحول إلي دولة مستقلة( حتي من الذين يعارضون سيطرة الدينكا علي مقاليد الحكم) وعندما تذكرهم بالتحديات التي يمكن أن يلاقيها الجنوب بعد الانفصال فإن هذا لا يثنيهم عن أرائهم بل يصرون عليه أكثر, فلسان حال كثيرون هو لننفصل أولا وليحدث بعد ذلك ما يحدث. ومن أشهر الذين يتزعمون الشباب في تلك المظاهرات شاب يطلق عليه بودا في حين أن المحرك الرئيسي لتلك التجمعات هو مارتن ماجوت ياك وهو السكرتير القومي للمنظمات الجماهيرية والفئوية في الأمانة العامة للحركة الشعبية لتحرير السودان. الأماتونج.. السودان الجديد كثيرون منهم يتطرقون حتي لتفاصيل ما بعد الاستقلال فمثلا من حيث اسم الدولة فالأغلبية يبدون تمسكهم باسم السودان لدولتهم وأن أختلف البعض في إذا ما كان سيطلق عليها السودان الجديد أو سيصبح اسمها جنوب السودان وهناك من يريد اسم أخر للدولة وقالت لي سارة جيمس أنه كان مقترحا منذ اتفاقية فاشودة للسلام وهو( أماتونجamtong) وهو اسم شجرة في الجنوب معروفا عنها أنه إذا ما حفروا أسفلها في موسم الجفاف فإنهم يجدون ماء.والحقيقة أن تسمية الدولة ليس هو ما يستدعي التوقف أمامه ولكن هناك تحديات جمة تواجه الجنوب في حال الانفصال ويدركها جيدا الجنوبيين قبل الشماليين, جزء منها يتعلق بمقومات الدولة وقدرتها الشاملة الحالية وجزء آخر يتعلق بتداعيات الانفصال علي الأوضاع الداخلية للجنوب أمنيا واجتماعيا.
تحديات الانفصال فتحدث نبيل البتانوني وهو خبير اقتصادي من الشمال عن المصاعب الاقتصادية التي يمكن أن يواجهها الجنوب في حالة الانفصال من كونها ستصبح دولة حبيسة تعتمد بشكل كبير علي الشمال في الاستيراد والتصدير لا سيما وأن تكاليف الاستيراد والتصدير من خلال الطيران مكلفة جدا ولا يمكن الاعتماد عليها في كل شيء وخصوصا وأن الجنوب يعتمد علي الاستيراد بنسبة100% تقريبا, أيضا هناك ارتباط لا يمكن فصله في الفترة الحالي بين الشمال والجنوب بسبب وجود المصافي التي يكرر فيها بترول الجنوب في الشمال كما أنه يتم تصديره عن طريق ميناء بور تسودان وفي حين أن البترول يشكل45% من الناتج القومي في السودان ككل نجد أن الدخل القومي في الجنوب يعتمد بنسبة98% علي نسبتهم من البترول. ورواتب جيش الحركة الشعبية ومرتبات الموظفين في الوزارات تعتمد بشكل كامل علي دخل البترول الذي يحصلون عليه من الشمال, وهو ما يعني أن في حال قطع أو تعطل المال عن الوصول أن يكون الجيش خارج السيطرة. أيضا هناك ارتباط نقدي بين الشمال والجنوب لتعامل الجنوب بالجنيه السوداني حيث أن الشمال يمنحهم نصيبهم من البترول بالجنيه وليس بالدولار وبالطبع لا توجد قدرة حالية علي إصدار عملة جديدة خاصة بهم لأسباب عديدة أبسطها علي الإطلاق أنه لا توجد حتي الآن مطبعة من أي نوع في الجنوب وبالطبع لا توجد مطبعة بنكنوت( وإن كان قد ترددت شائعات عن قيام الحكومة بمحاولة استيراد مطبعة مؤخرا) ولكن الأهم عدم وجود نظام مصرفي كامل يدير السوق ويتحكم فيه. وعدم وجود أنظمة واضحة للتعامل هو أمر ينسحب علي قطاعات أخري فمثلا عدم وجود نظام لمحاسبة الناس علي ما يحصلون عليه من كهرباء جعل تلك الخدمة تقدم لمعظم المستفيدين منها بالمجان وهم يبحثون حاليا الطرق الممكنة لتحصيل تلك الفواتير في المستقبل. عجز في الكوادر ويمكن من خلال زيارة الجنوب أن نتبين مصاعب أخري منها طبيعة شعب الجنوب والذي عاش لعقود طويلة تحت وطأة الحروب مما أفقده القدرة علي اكتساب مهارات في مجالات العمل المختلفة واعتمد لسنوات عديدة علي ما يقدم له من إعانات من الجهات المانحة لذا نجد أن معظم من يعمل في الجنوب حتي في أبسط المهن مثل قيادة التاكسي أو حتي تقديم الطعام في الفنادق من جنسيات أخري من أوغندا وكينيا وليبريا وأثيوبيا ومصر, هذا بخلاف أن قطاع التجارة يعتمد بالكامل علي تجار الشمال ودارفور والذين يسيطرون علي الأسواق ولا يمكن الاستغناء عن ما يقدمونه من خدمة في الجنوب, فرغم المضايقات التي تعرض لها الكثيرون منهم ودفعت بعضهم لترك الجنوب فإن سيطرتهم علي الأسواق لا تزال واضحة وذلك رغم المنافسة الأوغندية القوية. والجنوب يفتقد لوجود الكوادر الكافية والقادرة علي تغطية احتياجات الجنوب في قطاعات عديدة وفي مقدمتها التعليم والصحة فهناك مدن بأكملها لا يوجد بها جراحين أو أطباء أخصائيين. أيضا هناك نقص كبير في عدد المعلمين حتي أن( معهد مريدي) وهو أخر معهد من المعاهد الستة لتدريب المعلمين والتي كانت موجودة في الجنوب والذي كان مستمرا في العمل قد أغلق في العام الماضي نظرا لعدم وجود تمويل مالي له من حكومة الجنوب. وعندما طرحت بعضا من تلك المصاعب علي مارتن ماجوت سكرتير التنظيمات الشعبية قال لي: وماذا قدمت لنا الوحدة مع الشمال في هذا الصدد فما نحن فيه الآن تعلمه الحكومة المركزية في الشمال ولم نفعل فيه شيئا فهي ترفض أن تنفق في الجنوب ولا تمنح له ميزانية كجزء من السودان ككل وإنما تمنحه نسبة يسيرة من عوائد البترول الموجود في الجنوب فقط. ما بعد الانفصال ومع اعترافنا بأن كل ما سبق هو مشكلات حقيقية تواجه الجنوب فإن هناك الكثير من الأمور التعامل معها ليس مستحيلا في حال الانفصال فبالنسبة لمصافي البترول فإن الصين والتي تعد السودان رابع أكبر مصدر للبترول لها فمن مصلحتها أن تبني خط أنابيب جديد من الجنوب إلي مومبسا في كينيا وتقيم مصافي لتكرير النفط في الجنوب خصما من عائد النفط أو في نظير عمل تعاقد جديد مرضي مع الجنوب أسوة بالتعاقد الذي سبق ووقعه مع حكومة الخرطوم وكانت الصين تحصل فيه علي النصيب الأكبر ويقتسم السودان شماله وجنوبه النسبة اليسيرة التي يحصلون عليها. أما بالنسبة للقطاع المصرفي فبالطبع سيتم التعامل بالجنيه السوداني لفترة حيث يصعب سحبه سريعا ولكن ينبغي ألا نغفل أن استخدام الدولار في الجنوب شائع جدا ويمكن التعامل به لفترة جنبا إلي جنب ومع الجنيه السوداني لحين إصدار عملة خاصة بهم ولكن ينبغي هنا الإشارة إلي أمر استوقفني في الجنوب وهو أنه من الممنوع تداول الدولارات التي تحمل تاريخ قبل عام2006 حيث ترفض أية جهة استلامها في الجنوب وأحيانا يتم تغييرها للمضطر بنصف قيمة الدولار وبشكل غير رسمي وهو الأمر الذي لم أفهم مبرراته. البديل الأوغندي بالنسبة للتجارة فيمكن للجنوب الاستعاضة بالاستيراد من أوغندا بدلا من الشمال وخصوصا لو علمنا أنه وفقا للبنك المركزي الأوغندي فإن حجم الصادرات الحالية للجنوب تصل شهريا لحوالي170 مليون دولار ولا يوجد ما يمنع من زيادتها. وبالنسبة لاعتماد الجنوب علي استيراد مواد البناء بالكامل من الشمال فيبدو أن كينيا فطنت لذلك وقامت بالتعاون مع الهند في عمل مصنع للاسمنت بتكلفة قدرها105 مليون دولار في شمال غرب كينيا بالقرب من الحدود السودانية وذلك للاستفادة من احتياج الجنوب لتحسين الأوضاع الاقتصادية في كينيا بمثل هذه المشاريع. لغة الرصاص المشكلة التي تؤرق المجتمع الدولي من الانفصال هي أن وتيرة الصراع بين القبائل في تصاعد والانشقاقات في جيش الحركة الشعبية يحدث بشكل متكرر ولغة السلاح هي القوة الأولي التي تتحكم في مناطق عديدة في الجنوب ويروي لي أحد المراقبين الدوليين الذين أشرفوا علي الانتخابات ما حدث في ولاية الوحدة أثناء الانتخابات والتي كان مرشحا فيها الدكتورة أنجليكا زوجة الدكتور ريك مشار نائب رئيس الحكومة في الجنوب وكان أمامها مرشح الحركة الشعبية وحاكم الولاية تعبان دينق ولأن الولاية بها نسبة كبيرة من قبيلة النوير التي تنتمي إليها أنجليكا فقد أعطوا أصواتهم لها ولكن تعبان لم يعترف بالنتيجة وقام بأخذ صناديق الانتخابات وأعلن نفسه فائزا بالانتخابات, وهو الأمر الذي لم ينفيه د. ريك مشار نفسه عندما سألته عن هذا الأمر فتعبان دينق هو حاكم قوي وله سطوة كبيرة علي الجيش هناك وهو ما جعل له الكلمة العليا, ونفس الأمر تكرر في ولاية جونجلي والتي رشح فيها نفسه القائد العسكري جورج أطور وعندما خسر أمام الحاكم كوال مدينق قام بحركة تمرد في الجيش وكان يطالب بتقسيم ولاية جونجلي ليتولي منصب الحاكم في الجزء الذي يري أن به مؤيديه!! هذا بخلاف الصراع بين القبائل بسبب نزاع علي أبقار وفي العام الماضي سجلت الأممالمتحدة العديد من المعارك التي سقط فيها مئات القتلي وبالطبع فإن الانفصال قد يؤجج تلك الصراعات بشكل أكبر. آبيي...كركوك السودان يختلف المحللين في وصف وضع مدينة آبيي في العلاقة ما بين الشمال والجنوب ومدي أمكانية أن تكون نقطة اشتعال الصراع بينهما مرة أخري وهناك من يشبهها بكشمير وذلك كما قال لي سلطان الدينكا هناك والبعض يري أن وضعها أقرب لكركوك العراق علي اعتبار أن أصل الصراع يدور حول البترول وهناك من يري أنها لا هذا ولا ذاك وأن الجنوب يستخدمها كورقة للضغط علي الشمال لإتمام أتفاق الانفصال فأهمية آبيي لا يعود لمجرد وجود بترول فيها, فحسب وإنما لأنها مسقط رأس عدد من قيادات الجنوب ومنهم علي سبيل المثال دنج الور وكذلك فإن أغلب سكانها من الدينكا والذين يتصارعون مع قبائل المسيرية الشمالية. ولقد كان هناك صراع بين الشمال والجنوب علي منطقة أجليج وإذا ما كانت تتبع آبيي أم لا وحسمتها محكمة العدل بأنها لا تتبعها وأن بقيت آبيي قضيتها لم تحسم بعد ومن المفترض أن يتم استفتاء أهلها إذا ما كانت تتبع الشمال أم الجنوب. والحقيقة أن آبيي من أكثر المدن التي زرتها معاناة فالصراعات والقتال العنيف بها ما بين القبائل أتي علي الأخضر واليابس فرغم وجود سكان هنا وهناك فإنك لابد وأن يعتريك شعورا بأنك تزور مدينة مهجورة حيث تسيير لمسافات حتي يمكن أن تري بعضا من القطيات( الأكواخ) المتناثرة والمعروف أن هناك صراعا عنيفا يثور ما بين الحين والآخر ما بين قبيلة الدينكا الجنوبية وقبيلة المسيرية الموالية للشمال ولأنها قبيلة رعوية فهي تنتقل في الصيف من مكان لأخر للبحث وراء الماء مما يجعلها تعتدي أحيانا علي أراضي الدينكا فينشأ الصراع والذي يعلو فيه صوت الرصاص ويسقط فيه مئات القتلي والجنوبيين يتهمون حكومة الشمال بدعم المسيرية في صراعاتها ضد الدينكا ويرون أنهم أسقطوا آبيي من المشاركة في الانتخابات الماضية خوفا من أن تظهر انتماء آبيي للجنوب وذلك بحسب ما قال لي كوال دينق كوال سلطان الدينكا في آبيي حيث أوضح أنه في الوقت الذي تجاهلت مفوضية الانتخابات آبيي قامت حكومة الجنوب بتخصيص مقعدين لآبيي في ولاية واراب وكذلك مقعد للمرأة كما خصصت مقعدا لآبيي في المجلس الوطني بالخرطوم خصما من المقاعد الأربعين المخصصة للجنوب وعندما أدركت حكومة الشمال ذلك قامت ولاية جنوب كردفان بتخصيص مقعد لآبيي باعتبار أنها تابعة للولاية. لماذا آبيي!! وعن أصل الصراع بين الشمال والجنوب حول آبيي يقول سلطان الدينكا كوال دينق أن آبيي أرض مليئة بالموارد الطبيعة فبجانب البترول هناك من يتحدث عن وجود اليورانيوم وموارد أخري عديدة وهذا سر أهميتها, وآبيي كانت تتبع إدارة الجنوب ثم قام الحكم المصري الإنجليزي بنقل تبعيتها للشمال لظروف أمنية رغم أن أغلبية السكان كانوا ينتمون للجنوب وبدأت الحكومة بعد ذلك تدفع قبيلة المسيرية للوجود في آبيي وتدعمها في صراعاتها مع الدينكا وخصوصا مع احتياج قبيلة المسيرية لمرعي لأبقارها في موسم الصيف وهو ما جعل الصراعات تتأجج. ولكن ومع اتفاق السلام ثم عمل برتوكول آبيي والذي يتضمن أجراء استفتاء في آبيي حول انضمامها للشمال أو الجنوب والذي سيجري متزامنا مع استفتاء انفصال الجنوب. سألته عن رغبة أهل آبيي في الانفصال فقال الانفصال ليس هو الحل الوحيد أو نهاية المطاف ولكنه بداية ليتعامل الشمال مع الجنوبيين بندية واحترام كما أنه هام للجنوبيين ليشعروا أنهم ليسوا تابعين لأحد. وعن الصراع والاقتتال الذي ينفجر بين القبائل من الحين للأخر فيقول للأسف لا يزال هناك الكثير من الأسلحة سواء مع المسيرية أو الدينكا ولك أن تتخيلي أن تعداد السكان في آبيي انخفض بسبب تلك الصراعات من200 ألف نسمة إلي30 ألف فالمدينة هدمت بالكامل حتي أن كل محلات السكن والأشغال المختلفة الموجودة حاليا مبنية حديثا وعن إذا ما كان حكم محكمة العدل الدولية بأن منطقة أجليج الغنية بالبترول لا تتبع آبيي يمكن أن يحد من الصراعات ؟ فقال المحكمة حكمت بأن حدود آبيي الإدارية لا تضم أجليج ولكن هذا لا يعني أن أجليج لا تتبع الجنوب لأن حدود56 ما بين الشمال والجنوب لم ترسم بعد حيث تضع حكومة الشمال العراقيل أمام تحديدها. وعن إذا ما كان من الممكن أن يتجدد الصراع ما بين الشمال والجنوب بسبب آبيي ؟ فأجاب إذا قامت حكومة الشمال بالتزاماتها واتفاقاتها الدولية فلن يحدث صراع ولكن وكما هو واضح فإن قبائل المسيرية والتي تتحرك دائما بدافع من الحكومة أعلن أحد قادتها رفضه لحكم محكمة العدل الدولية والذي يرون أنه يحرمهم من الرعي في مناطقنا والأهم أنهم لن يشاركوا في التصويت في الاستفتاء وهم يثيرون القلائل رغم رضوخنا نحن لقرار المحكمة والذي حرمنا من بعض مناطق البترول التي كانت تتبع آبيي. في الحلقة القادمة: مصر في الجنوب. [email protected]