منذ أيام أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما تصميم واشنطن علي تدمير تنظيم القاعدة في اليمن, وذلك علي أثر الكشف عن طردين كانا يحتويان مواد ناسفة في طريقهما إلي الولاياتالمتحدة. وأوردت وسائل الإعلام أن إدارة أوباما تبحث توسيع الخيارات العسكرية في اليمن, وأن بريطانيا تلمح إلي احتمال التدخل العسكري. جيواستراتيجيا قاعدة اليمن يشير تتبع التسلسل الزمني للأحداث في الأشهر الماضية داخل اليمن وخارجه إلي أن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذي يستوطن اليمن أصبح أحد الرءوس الأساسية لتنظيم القاعدة الأم, أو أنه الرأس النشط لهذا التنظيم من الناحية الفعلية. فلقد انطلقت أخطر محاولات وعمليات الهجوم ضد المصالح الأمريكية والغربية في الآونة الأخيرة من فرع تنظيم القاعدة باليمن, وأصبحت عمليات هذا الفرع ذائعة الصيت بعدما أفل نجم نشاط القاعدة في السعودية وبلاد الرافدين منذ أربع سنوات. وفي الحقيقة, فإنه لم يكن تنظيم القاعدة ليتمكن من الاستقرار باليمن لولا توافر ملاذات آمنة بالنسبة له وجغرافيا تناسب تماما احتياجات عمل ونشاط وازدهار هذا التنظيم, فاليمن لا يوفر للتنظيم فقط منافذ دخول وخروج سهلة عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي وخليج عدن, وعبر الخط الساحلي للبلاد الذي يمتد لمسافة2500 كيلومتر والذي يصعب حراسته, وإنما يوفر له أيضا ملاجئ آمنة وإمكانات للاختباء مستفيدا من جغرافيا جبلية وعرة ومناطق خارجة علي سلطان الدولة المركزية في الشمال والجنوب. من الناحية الجغرافية, فإن اليمن من أقرب البلدان المجاورة للصومال; لا يفصل بينهما غير البحر, كما أن المسافة بين مدينة عدن اليمنية ومدينة بربرة الصومالية لا تزيد علي نصف الساعة بالطائرة أو ساعة ونصف الساعة بين عدن ومقديشو, فضلا عن ذلك يمثل اليمن بيئة جاذبة لمجموعات من عناصر القاعدة, مع توافر وقود الأزمات اليمنية بالداخل. ويبقي الأهم والأخطر من ذلك, ما يتوافر لعناصر تنظيم القاعدة في اليمن من قوي إسناد فصائلية مسلحة في الجوار الإقليمي تقوم بتقديم تسهيلات لتنقلات واحتياجات التنظيم, فعلي مقربة من اليمن أحد أكثر الدول فشلا في العالم(الصومال), التي تعد مقرا للكثير من جماعات القرصنة وحركات التمرد مثل حركة شباب المجاهدين, التي يقدر عدد عناصرها بما بين3000 إلي7000 مقاتل. وتطرح بعض التقارير احتمال اندماج الحركتين( القاعدة وشباب المجاهدين). فضلا عن ذلك يوجد اللاجئون الصوماليون في اليمن والبالغ عددهم نحو نصف مليون شخص. وهذه البيئة والظروف تمثل عناصر تواصل جغرافي وبشري ولوجستي مضافة, وتوفر بيئة نموذجية لنشاط تنظيم القاعدة. ولهذه التركيبة والبيئة الحاضنة لتنظيم القاعدة في اليمن وعلي جواره دلالتها في معرفة حدود خيارات السلوك العسكري الأمريكي في السابق وفي المرحلة المقبلة, إذ تؤكد هذه البيئة أن خيارات التصرف الأمريكية ليست محكومة بما يتم إقراره في أجهزة صنع القرار العسكري بالبنتاجون والاستخباراتي ب السي أي إيه في المقام الأول, وإنما بحدود ما تقرره أوضاع البيئة الجيواستراتيجية لتنظيم القاعدة في اليمن والصومال. وإذا كان بالإمكان نفي احتمال الغزو العسكري الأمريكي الشامل ابتداء في الظروف الراهنة, وإذا كنا نعرف عن وجود ونشاط أمريكي استخباراتي وعمليات عسكرية مباشرة في اليمن منذ مدة, فإنه من الممكن تصور أبعادا وآفاقا أخري للتهديدات الأمريكية الأخيرة. الخيارات العسكرية لقد اعترف أكثر من مسئول يمني في الآونة الأخيرة بقيام الولاياتالمتحدة بعمليات عسكرية داخل الأراضي اليمنية, لكن الضربات الأمريكية توقفت منذ ديسمبر الماضي, لأن الحكومة اليمنية أكدت أن هذه الضربات لم تأت بنتائج. وهو الأمر نفسه الذي أقر به العميد يحيي صالح رئيس أركان قوات الأمن المركزي اليمنية, الذي أقر بصحة هذه المعلومات مشددا علي ضرورة تقبل هذا الأمر, والنظر إليه ضمن الصورة العامة للحرب الدولية علي الإرهاب, ورافضا أن تشعر صنعاء ب الخجل حيال الغارات الأمريكية. وإزاء معرفة قيام الولاياتالمتحدة من الناحية الفعلية بهذه الغارات والعمليات علي أرض اليمن, فماذا تتضمنه التصريحات الأخيرة الواردة من واشنطن ولندن, هل هي مجرد فرقعات إعلامية من بلدان تقف إلي حد كبير شبه عاجزة عن القضاء علي التنظيم الأم في أفغانستان, أم أن التهديد بالتدخل العسكري في اليمن خيار حقيقي من الناحية الفعلية, وأنه مازال في جعبة البلدين بدائل أوسع قابلة للتطبيق علي أرض اليمن؟ لقد ترافق الإعلان الأمريكي الأخير مع الكشف عن نقل الإشراف علي الوحدات الخاصة إلي ال سي أي إيه, وهي الخطوة التي تسمح للولايات المتحدة بضرب الأهداف الإرهابية المحتملة بشكل أحادي بقوة وسرعة, مما يمنح واشنطن حيزا أكبر لتنفيذ عملياتها دون مباركة صريحة من الحكومة اليمنية, وبما يتيح للحكومة اليمنية حرية نفي معرفتها المسبقة بهذه الضربات بسبب سرية عمليات المخابرات الأمريكية, كما يبحث البيت الأبيض أيضا إضافة طائرات مسلحة بدون طيار تابعة للسي أي إيه إلي الترسانة العسكرية ضد المسلحين في اليمن, ويجري البحث أيضا في إرسال محققين أمريكيين إلي اليمن. إن الجديد هنا قد يتعلق بتوسيع عمليات ونطاق التدخل العسكري الأمريكي أو بتغيير في صلاحيات وأدوار الأجهزة المكلفة بمتابعة هذه الأمور, وإيلاء دور أكبر لجهاز الاستخبارات والقوات الخاصة التي تتسم بالحركية والسرعة وتتجاوز بطء القرار العسكري. كما أن الجديد يمكن أن يتمثل أيضا في تنويع مصادر الهجمات الأمريكية, وفي أحجام هذه الهجمات ودقتها ونوعية العمليات, وفي سرعة التواصل بين البر والبحر والجو. فعلي الرغم من الكشف عن تعاون عسكري يمني أمريكي, إلا أنه وسط كل ذلك يغيب الحديث عن مصادر توجيه الضربات الأمريكية, هل يجري شن وتوجيه هذه الضربات من البوارج والسفن الحربية بالمياه الإقليمية لليمن( البحر الأحمر أو المحيط الهندي أو خليج عدن), أم تتم من داخل الأراضي اليمنية بما يعنيه ذلك من وجود أمريكي علي الأرض غير معلوم أماكنه, أم تتمثل في ضربات برية من قواعد أرضية قائمة بدول مجاورة. وتشير الأفكار الجديدة إلي اتجاه الولاياتالمتحدة لتكرار أنماط ونماذج التدخل والعمل ضد تنظيم القاعدة وطالبان في باكستان, وتكرار نمط السلوك الذي أنتج أنماطا من الضربات والعمليات التي كانت محل اتفاق ضمني وبدت غير متفق عليها في العلن بين حكومتي البلدين. لكن في الإطار الأشمل لا تقدم تجربة باكستان خبرة يعتد بها, وإن كانت فاعلة في تقليص نفوذ التنظيم وتعريضه لخسائر لكنها لم تقض عليه, ولم تحقق أهدافها كاملة حتي الآن, وهو ما يشكك في فاعلية الأفكار الأمريكيةالجديدة بشأن اليمن. وأخيرا, يمكن للتهديد الأمريكي والبريطاني بتوسيع العمليات العسكرية أو التدخل العسكري في اليمن أن يعني طائفة متسعة من تصورات الأفعال المحتملة, وتبقي المشكلة في أن المستويات الأدني من التعاون اليمني الاستخباراتي والعسكري ضمن مساعدات ذات شأن في السابق وولد صيغة صبت في مصلحة الوحدة اليمنية حتي الآن, بينما يمكن للمستويات الأعلي من التعاون اليمني أن تعرض النظام اليمني لاضطرابات جوهرية وتطيح بهيبة الدولة, في ظل ما قد ينتهي إليه ذلك من انتعاش تبادل الاتهامات بالعمالة, التي قد لا تتحملها أوضاع اليمن بالداخل. فهل تبقي الولاياتالمتحدة عند منطقة تمكن النظام اليمني من القيام بمهامه, أم تقوم هي بالمهمة, وتعرض اليمن لاختلالات داخلية شديدة؟