كيان الآدمي مؤسس بدنا ونفسا, من ملكات وأحوال واستعدادات وميول واتجاهات, وهذا المزيج يطلق عليه لغة مزاج الآدمي.. وفي المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية أن مزج الشراب أونحوه مزاجا: اي خلطه بغيره, ومازجه: خالطه, وحين يقال تمازج الشراب والماء, فالمعني انهما اختلطا, ويقال: تمازج الزوجان تمازج الماء والصهباء, والمزاج بكسر الميم تقال عن كل نوعين امتزجا, وفي التنزيل العزيز: كان مزاجها كافورا.. ويقال عن المزاج فيما اورد المعجم انه استعداد جسمي عقلي خاص كان القدماء يعتقدون انه ينشأ عن أن يتغلب في الجسم احد العناصر الاربعة وهي: الدم, والصفراء, والسوداء, والبلغم. ومن ثم كانوا يقولون بأربعة أمزجة هي: الدموي, والصفراوي, السوداوي, البلغمي. اما المحدثون من علماء النفس والكلام لايزال للمعجم فيوافقون علي أن الأمزجة ترجع الي مؤثرات جثمانية, ولكنهم يخالفون في عدد الأمزجة واسمائها, إذ يعتدون بالإفرازات التي تفرزها الغدد الصماء كالغدة الدرقية, والغدة الكلوية, ويجعلونها المؤثرات الأساسية في تكوين الأمزجة( انتهي). فالعناصر التي ذكرناها وذكرها المعجم الوسيط المؤسس عليها كيان الآدمي, هي عناصر تتشارك وتتلازم وتتساند في تكوينه, ويستتبع بعضها وجود بعض ويؤثر فيه ويتأثر به, ويجعل لكل فرد فرديته.. لأنه يشعره باختلافه فيها اختلافا بينا.. حتي عن أقرب الأقربين له, ويمكنه من تنمية شخصيته إذا التفت إلي هذه التنمية التي يرتد اليها كل تقدم أو ترق بشري. وهذه الفردية أو التميز لا تعني قط نفي التشابه نهائيا بين القرابات العرقية والبيئية, ولا تنفي ان التشابه موجود وان التفطن لهذه التشابه يصاحبه تعلق الأفراد به وشدة غيرتهم عليه, ومن هنا كان منشأ الجماعات والأمم, وكذا عصبية الأسرة والبطن بين الذين ينتمون إلي أصل واحد حقيقي أو ظني. فمظاهر التشابه تجتمع لدي الفروع والبطون والأسر في القبيلة, ويتميز أفراد كل جماعة بما يشبه ان يكون مزاجا مشتركا لهم, يتفردون به ويشعرهم باختلافهم عن سواهم من الجماعات الأخري. تلمس هذا بين اصل العائلة الواحدة, والحي والقرية والمركز, وقد تلمسه في المدينة والإقليم والدولة, ولا يحول تعلق أبناء الجماعة دون التواد او التعاون مع الآخرين, ولا يحول دون عقد الصداقات والعلاقات الحميمة, والارتباطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الصلات التي تزداد اليوم باستمرار في عالمنا المعاصر. ولكن هذا المزاج المشترك بين أفراد كل جماعة او مجموعة من الجماعات العرقية والبيئية, لا يأخذ حظه من الاهتمام.. ربما خوفا من إبراز وجوه الاختلاف, في الوقت الذي يجتهد فيه الناس في التوفيق ومحاولة حل المنازعات وإزالة المخاوف وإشاعة الثقة والسلام في العالم.. وربما كان ذلك مخافة أن يعد ابراز هذه الفروق إساءة إلي البعض! أو ثقة من الجماعات القوية الكبري في أنها ليست بحاجة إلي إبراز هذه الفروق لتحقيق ما تريد. وفي الولاياتالمتحدة أخلاط شتي من السود والهنود الحمر واليهود والصينيين والعرب الكوريين والآسيويين.. يعيشون جنبا إلي جنب مع البيض الذين جاءوا أو جاء آباؤهم من أوروبا الغربية أو الشرقية. ومازالت كل قلة من هذه الفئات تتميز مع لونها وسحنتها بشيء قليل أو كثير من استعداداتها وميولها واتجاهاتها.. اي بمزاجها الذي يرجع الي أصلها.. ويبدو هذا قويا واضح المعالم في عوام كل فئة.. وخفيفا في خاصتها التي تحتل مراكز ومناصب ومكانة مهمة في المحيط او الدولة. وقد يقع احيانا التزاوج وإنشاء الأسر بينهم وبين غيرهم من الفئات, كما قد توجد الروابط الاجتماعية الوثيقة بين هؤلاء وأولئك من خاصتهم أو عامتهم في المحيط الذي يجمعهم, وقد تبين ان تعايشهم جميعا في سلام ومساواة في الحريات والحقوق العامة وفرص العمل قد أدي مع الوقت الي اختزال الفروق العرقية والبيئية فيما بينهم اختزالا واضحا ينسيهم الشعور بالغربة والإزوراء أو الحطة التي كانت لدي بعضهم الي ماض قريب, ولكنها لا تنسيهم مزاج كل جنس لأنه أساس كيان الآدمي بدنا ونفسا, وإنما تعطيهم فرص التعامل معه بمزيد من التعقل والفهم ومزيد من الانتظام وضبط النفس ومزيد من احترام حقوق الغير ومزيد من الالتفات لقوة وضرورة طاعة القوانين التي يجب ان يخضع لها الجميع. ولذلك توجد فوارق مشهودة وعميقة بين سود الولاياتالمتحدة وبين سود إفريقيا أو سود الكاريبي, وكذا بين هنودها وهنود امريكا الجنوبية, وبين يهودها ويهود روسيا والبحر الأبيض المتوسط, وبين الصينيين والأسيويين هناك وبين سكان الصين وغيرها من بلاد الجنوب الشرقي لقارة آسيا. ويندر ان يهجر المولود من هذه الأجناس في الولاياتالمتحدة يندر ان يهجر مقامه فيها ليعيش مع ابناء جنسه في بلدهم الأصلي. وعلة ذلك ليست فقط اختلاف العادات والمشارب, بل ايضا التطور والتغير في نسب وقوة الاستعدادات والميول والاتجاهات التي يتطور بتطورها المزاج الآدمي نفسه. ومزاج الأجناس كمزاج الأفراد يفرض علي الناس سلطانه, ولكن يمكن تحسين تأثيره في حدود واسعة يتحرك فيها كل جنس حسب ظروفه وأحواله. والمشاهد ان هذا التحسين بطيء في البلد الأصلي للجنس, سريع في المهجر. وقد يعزي تسارع إيقاع هذا التطور في المهجر الي ما تقتضيه محاولة التعايش فيه من وجوب بذل المزيد من الالتفات والمجهود طلبا للانخراط وتلافيا لمخاطر الطرد او مخاطر الغربة في بلد يدرك المهاجر أنه غريب فيه بلا نصير أو معين, ومعرض فيه للضياع بين شدة الاحتياج وقلة الحيلة والوسيلة! فضلا عن فرحة المهاجر بعد شيء من الاستقرار بمهاجر آخر أو أكثر يؤنسون وحشته ويجعلون لحياته معني.. ثم باعتياده واعتياد من لحقوا به من المهاجرين علي الحياة الجادة المليئة بالتنافس بالعمل والكفاح مما قد لا يوجد في البلد الأصلي مثله أو نظيره.. ثم بوجود جماعة من جنسه قريبة منه في مهجره عانت وكافحت وصارت قادرة علي إنجاب أجيال أفضل فرصا وأوسع أفقا وأكثر احتراما ومكانة وأملا في المستقبل. فبلده الأصلي ربما ضاق من سنين عديدة بأهله الذين كفوا عن الرجاء بل نسوه عندما اصطدموا مرارا بضيق الفرص والعجز عن معرفة طريق لتحقيق ما يرجوه كل منهم لحاضره ومستقبله, فيتحول الجنس مع تراكمات السنين الي الخمول الراكد والعيش علي اجترار الماضي بلا سعي حتي لتجديد الأدوات والوسائل, مع مضيعة الوقت في اللغو والتحاسد وتبادل الشائعات والنميمة! ومع تراكب وتراكم كل هذه العوامل, فإن البلد الأصلي يعتريه ما يكاد يخرج به عن الحركة الداخلية الدافعة للعالم, مما يكبل الناس بالقيود المرئية وغير المرئية التي توقف أشواقهم وتصادر أي قدرة علي تخيل جديد تنصلح به أحوالهم وتفتح آفاقا للحركة والإنجاز. وهذا وتعايش الأجناس مع اختلاف مزاج كل جنس ضمن بيئة واحدة, واقع شاع من قديم العصور.. يرجع فضلا عن استمرار الهجرات الي الغزو والفتح.. وفيه يصير الفاتحون ونسلهم مع تباين مراتبهم يصيرون جنسا متميزا علي الجميع.. يري نفسه سيدا علي مسودين وأتباع.. وهي رؤية قد تستمر أحقابا الي ان تنطفيء بانقراض أصحابها أو قلتهم وقلة حيلتهم, أو بانتعاش الأجناس الأخري لتغير الأحوال والظروف وظهور اسباب وعوامل جمعت لهؤلاء النفوذ او السطوة في الجماعة. وفي البلاد المتقدمة الآن, امثلة كثيرة علي استفحال هذا التغير واستقرار المساواة العامة في الفرص والحريات والحقوق العامة لكل فرد بلا فرق في الأصل أو اللون أو الجنس أو اللغة, وتضاءل الي حد بعيد احتفال القوم بالأصالة والارستقراطية. بينما لاتزال الفروق بين الأجناس واضحة مرعية بطريقة أو أخري في البلاد المتخلفة, ومصدر متاعب وقلاقل وفتن وفتن تحدث من وقت لآخر, لأسباب أكثرها بعيد عن المعقولية وليد الانفعال والتحيز والتعصب. والتكاثر يؤثر تأثيرا عميقا علي مزاج الجماعة والافراد, وهو إن كان يلهي في البدايات, إلا انه يقلق وينكد ويخفق بعدها. وربما كان في هجرات اسراب الطيور الحولية وأسراب الأسماك فرصا للتخلص من تكاثرها المقلق! والتكاثر مشهود لدي الآدميين في المناطق الحارة, وهو خانق لأن حرارة الجو تضعف صبر الآدمي وجلده علي تحمل العمل المثمر الذي يحتاج الي الدأب والمثابرة. ولذلك تلحظ هبوط مستوي المعيشة في البلاد الحارة مع ما تعانيه من تكاثر الخلق الذي لا يجد ما يقابله من الاجتهاد والنشاط, ومن ثم يفر من يجد لديه القدرة بالهجرة الي بلد آخر أكثر ازدهارا وفرص كسب, وفي مناخ أكثر اعتدالا وأقل حرارة وازدحاما. ولا يقبل المهاجرون اختيارا علي الهجرة الي بلد تشيع فيه البطالة ويكثر فيه العاطلون. ومن الملاحظ تأثر امزجة الآدميين بالراوج والكساد.. فعلي قدر انتعاش الآمال مع الرواج, تهبط الحماسة والعزائم مع الكساد. فإذا طال امد الكساد اعتاد القوم علي قلة الاشغال وضيق أبواب الرزق, وتضاءلت أشواقهم للعمل وما يصحبه من جد وتصميم.. ويغمرهم في الغالب حزن دفين ربما صاحبه نزق واستخفاف وعدم مبالاة بما يحري من حولهم مما لم يعد يعنيهم بقاؤه أو زواله!