اليوم أحدثكم عن شاعر لم ينل بعد حقه من الإنصات, برغم أن له صوتا من أنقي الأصوات وأجملها وأعذبها, وبرغم أنه منذ اختاره الشعر وليا من أوليائه وصفيا من أصفيائه لم يفارق قيثارته ولم تفارقه, فهو مغن مخلص للغناء, كما هو مخلص لنفسه ولنا. هو مخلص للغناء لأنه يجد فيه نفسه, وهو مخلص لنفسه لأنه يعلم علم اليقين أن الشعر طير لا يبني عشه إلا في الذري, وهو مخلص لنا لأنه منا وإلينا, الشاعر صوت الأمة, والأمة هي المنبع والمصب. لكن شاعرنا محمد محمد الشهاوي الذي نحتفل اليوم ببلوغه السبعين يغني ونحن لا نشرب ولا نطرب, ولا نجيبه بصوت أو صدي, كأنما يصرخ في واد, أو ينفخ في رماد. كأن لغته لم تعد لغتنا, أو كأن همومه ليست همومنا, أو كأننا قررنا أن ننسي هذه اللغة وأن نهرب من هذه الهموم التي لا يستطيع المغني الحقيقي أن يتجاهلها, لأنه لو تجاهلها فقد صوته, وهل تكون الكلمة كلمة إلا بما تحمله من المعني؟ وهل يكون الصوت صوتا إلا بما يسكنه من فرح وترح؟ وهل يتبرأ الجمال من الحق ويتنكر له؟ إن إخلاصنا في البحث عن الحقيقة وفي الجهر بها هو طريقنا إلي الجمال الذي يخلط البعض بينه وبين الزينة والبهرجة. لا.. الجمال ليس زينة أو بهرجة, لأن الزينة سطح يخطف البصر أما الجمال فروح تملأ الكيان كله, إنه التوافق الحي الذي يتحقق بين العناصر علي نحو تلقائي كما يحدث في الحب الذي يبدو فيه كأن العاشقين كانا علي موعد مضروب في الغيب, وكأن كلا منهما كان ينتظر الآخر, وكأن النظرة الأولي التي جمعت بينهما لم تكن طريقا للتعارف, وإنما كانت تذكرا لعهد قديم, أقول إن هذا التوافق الحي التلقائي الذي نجده في الحب نجده أيضا في الجمال الذي يكون دليلا علي الصدق, كما يكون الصدق طريقا إلي الجمال. ومن واجبنا أن نعترف بأن أسبابا مختلفة حالت بيننا وبين الصدق والجمال, وأن ظروفا قاهرة أنستنا اللغة, فلم نعد ننطق ولم نعد نسمع, لأننا لا نجرؤ علي مواجهة ما نراه, ولا نريد أن نسمي ما نحن فيه. تحاورت والدهر, قلت: لماذا المياه تغيض؟ تنهد وهو يقول: كذا كل شيء غدا في الزمان المريض! تحاورت والنهر, قال الأبد: هو الماء ما ينفع الناس ضاع ولم يبق غير الزبد! تحاورت والشعر: أين الذي نرتجي من أغان جديدة؟ تململ وهو يغمغم ممتعضا: في زحام الوجوه البليدة تموت القصيدة ويطفو علي السطح وجه النشاز البغيض! وهناك من يزعمون أن العصر بطبيعته ليس عصر شعر, لأن الشعر في نظرهم حلم وخيال, والعصر واقعي, ولأن الشعر عاطفي والعصر عملي, وهذا كلام سهل منقول من مشاحنات وقعت قبل قرنين في أوربا بين قوي كانت تتسابق علي المكان الأول في المجتمعات والنظم الجديدة التي نشأت بعد الثورة الصناعية, وتحاول كل منها أن تستأثر بالكلام لتستأثر بالثروة ولتستأثر بالسلطة. المشتغلون بالمال والأعمال يتهمون دعاة الحرية والعدل بأنهم شعراء حالمون يعيشون في الماضي, وهؤلاء يتهمون أولئك بالابتذال والسوقية ومحاولة اغتصاب الحاضر والمستقبل. وقد جربنا نحن أيضا صورة من هذه المشاحنات في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي, حين كان المثقفون المصريون يطالبون بالديمقراطية, وبإطلاق الحرية للنشاط السياسي والثقافي فتلجأ السلطة لتحريض العوام علي هؤلاء المثقفين الذين ايتفلسفونب, ولا يهمهم رغيف الخبز الذي تريد السلطة أن توفره لعامة الناس, كأن العبودية هي الطعم الذي يجب أن نتحصن به ضد الجوع, وكأن الفم الذي يأكل لا يحق له أن يتكلم, وكأن القمح لا ينبت إلا في الطغيان, وهذا هو المناخ الذي فرض علينا الصمت, وأنسانا اللغة, وفرق بين اللفظ والمعني, وبين الجمال والصدق, وبين الشاعر والجمهور. العصر بريء من دم الشعر, وإنما هو الطغيان الذي اعتقل الشعر واغتاله ونفاه, لأن الشعر يموت في الخوف, ويموت في القيد, ويموت في الصمت, ويموت في العبودية, فإذا أردنا للشعر أن يعود للحياة من جديد فلنعد نحن للحياة, ولنعد للحرية, وإلا فبأي لسان ينطق الموتي؟ وبأي روح يغني المستعبدون؟ الشعر هو الصوت الذي يتفجر حين تملك الجماعة نفسها وتتمثل حريتها وصلتها الحميمة بالوجود, من هنا كان الشعر لغة كاملة تملأ الآفاق وتتوغل في الأعماق, تصف وتكشف وتتذكر وتتخيل وتقص وتتفلسف, وترقص وتغني. الشعر هو فرح الحياة بنفسها, حتي حين يكون رثاء, فليست المرثية إلا صرختنا في وجه الموت. وهذا هو بالضبط ما يقدمه لنا محمد محمد الشهاوي.. إنه بقدر ما يكره الموت يكره الصمت, وبقدر ما يتغني بالشعر يغني له ويغني لنفسه: أرق علي أرق كأن الجمر يجري في عروقي, أو كأن الليل بحر من لظي وأنا الضحية في مجامره المقيد أرق علي أرق فمن مني يخلصني لينقذ يا غزالة, يا قصيدة ما تبقي من محمد؟! وسوف نواصل الحديث عن محمد!