أنعم الله علي مصر بالنيل, وهو من أعذب الأنهار طعما,وأجملها منظرا, حتي عده رسول الله صلي الله عليه وسلم من أنهار الجنة, فقال:'سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة. (أخرجه مسلم2183/4), وفي رواية أنه لما رفع صلي الله عليه وسلم إلي سدرة المنتهي كان من وصفه:'وإذا أربعة أنهار نهران باطنان, ونهران ظاهران. فقلت ما هذان يا جبريل قال أما الباطنان, فنهران في الجنة, وأما الظاهران فالنيل والفرات'(أخرجه البخاري1411/3). واعتاد المصريون من قديم الزمان أن يحتفلوا بفيضان النيل ووفائه, وكان لهذا الاحتفال أغراض متعددة: 1- شكر النعمة قال تعالي:(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)( سورة إبراهيم:7), وقال سبحانه:(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم)(النحل:18). والماء من أعظم النعم التي من الله بها علي الإنسان, قال عز وجل:(وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة)(البقرة:164),وقال تعالي:(أولم يروا أنا نسوق الماء إلي الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون)( السجدة:27), وقديما بين الفقهاء درجات أفضلية المياه إظهارا لهذه النعمة وامتثالا لعلو شأن الماء في حياة المسلم, بل وفي حياة الإنسان عامة, فقال ابن السبكي في تفضيل النيل: أفضل المياه ماء قد نبع من بين أصابع النبي المتبع يليه ماء زمزم فالكوثر فنيل مصر ثم باقي الأنهر ولذلك قال أهل التجارب والخبرة:'من أقام بمصر سنة وجد في طباعه وأخلاقه رقة وحسنا'(كوكب الروضة,للسيوطي ص208). 2 أن الله سبحانه قد جعل الماء أصل المخلوقات فقال:(وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)(الأنبياء:30), وقال تعالي:(والله خلق كل دابة من ماء)(النور:45), ثم أكثر الحاجة إليه, وجعله عنوانا للطهارة الحسية والتهيؤ للصلاة بالوضوء أو الاغتسال, وأداة من أدوات إزالة النجاسة, وأمرنا باحترامه وبعدم إفساده وتلويثه,إذ نهي النبي صلي الله عليه وسلم'أن يبال في الراكد'(مسلم235/1), والتبول في الماء الراكد لا يفسده فقط, بل يجعله مستنقعا وموطنا لانتشار الأوبئة والأمراض,ونهي كذلك عن الإسراف في استعمال الماء, ولو تعلق الأمر بالعبادة كالوضوء, فقد مر صلي الله عليه وسلم بسعد رضي الله عنه وهو يتوضأ فقال:'ما هذا السرف؟' فقال سعد: أفي الوضوء إسراف؟ قال:'نعم, وإن كنت علي نهر جار'(ابن ماجة147/1). 3 استمر المصريون في ترصد وتخصيص يوم يحتفلون فيه بالنيل عند وفائه, واشتهر ذلك اليوم باسم( وفاء النيل), وكانت هذه الحفاوه تبدأ في يوم26 بؤونة من الشهور القبطية, وهو الوقت الذي اعتاد النيل أن يفيض من جانبيه, ويستمر في الزيادة لمدة48 يوما, فيحتفلون في يوم14 مسري وهو يوافق عادة يوم20 أو21 أغسطس باختلاف السنين الكبيسة والبسيطة. وفي هذا اليوم ينعقد المجلس الشرعي الإداري لرصد زيادة النيل, فإن وصل المقياس إلي16 ذراعا فأكثر وجبت الضرائب علي المزارعين, وإن كانت أقل من16 ذراعا عفي عنهم. وكان أهل العلم هم الذين يحكمون بين الحاكم والمحكومين في هذا الشأن, وظل هذا التقليد في مصر, وتولي رئيس المحكمة الشرعية العليا حضور ذلك المجلس إلي أن ألغيت تلك المحاكم ابتداء من أول يناير سنة1956 م, وآلت تلك الوظيفة إلي مفتي الديار المصرية. 4 ظل مفتي الديار المصرية يحضر هذا المجلس بمقر محافظة القاهرة حتي سنة1972 م, حيث تم بناء السد العالي ولم يعد النيل يوفي بفيضانه, فتوقف الاحتفال الذي كان يذكرنا بوجوب احترام النيل, وشكر النعمة عليه, والعمل علي طهارته والاستفادة الرشيدة منه, وعدم السرف في مائه, وعدم التعدي علي جماله, وإزالة كل ما يضر به من نبات وجزر, وكان الناس يتذكرون في مثل هذا اليوم أيضا وحدة دول حوض النيل من منابعه إلي مصبه, إلي غير ذلك من المعاني الجليلة التي كادت تنسي, ونحن في حاجة إلي إعادتها ونشر ثقافتها بين أبنائنا. 5 أما خرافة إلقاء عروس في النيل فقد جاءت عن طريق المؤرخ ابن عبد الحكم في القرن الثالث الهجري,حيث سمع بعض الإشاعات فسجلها دون سند من الحقيقة أو الواقع. 6 ولدينا حجة ذلك المجلس المشار إليه سنة1958 م, والتي وقعها فضيلة الشيخ/ حسن مأمون مفتي الديار المصرية, وجاء في مطلعها' انعقد المجلس الشرعي في تمام الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء الخامس من شهر صفر سنة1378 هجرية, الموافق20 من شهر أغسطس سنه1958 ميلادية, والرابع عشر من شهر مسري سنة1674 قبطية, بسراي محافظة القاهرة بميدان الجمهورية برياسة السيد اللواء/ عبد العزيز صفوت. محافظ القاهرة نائبا عن السيد الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة, وبحضور حكمدار القاهرة وسكرتير عام المحافظة ووكلاء الحكمدارية وكبار الضباط والعلماء ورجال الصحافة والإذاعة والتجار والأعيان'. ولا يسعنا في الختام إلا أن نردد ونتأمل ونعلم هذا الجيل والأجيال بعده قول سيدنا عمرو بن العاص في خطابه إلي سيدنا عمر بن الخطاب يصف له مصر ونيلها:( اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء, وشجرة خضراء, طولها شهر وعرضها عشر, يكتنفها جبل أغبر ورمل أعفر, يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات, محمود الذهاب والإياب, يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان, تعظم أمواجه فتفيض علي الجانبين). المزيد من مقالات د. علي جمعة