أكتب إليك رسالتي هذه مع نسمات صباح يوم جديد يمر علي ودموعي تنهمر من عيني. أكتب وأوجه رسالتي هذه الي كل ابن أو ابنة وإلي كل من سولت له نفسه في يوم من الأيام أن يغضب أبويه! لاحظت دائما أننا نركز في أحاديثنا علي الأم وهي قيمة لا يساويها شيء ولكننا أهملنا تماما الأب هذا الجندي المجهول في الأسرة. أهملنا الاب في كتاباتنا وأحاديثنا وحتي في حبنا, سمعنا حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم في حسن صحابة المرء لنفسه فقال له أمك( ثلاثا) ولكننا نسينا انه قال في الرابعة( ثم أباك). أكتب اليك سيدي ودموع الندم والحسرة تبلل رسالتي, وحتي لا أطيل عليك وعلي قرائك أود أن أقول انني ومع هذه المقدمة الطويلة لست ابنة عاقة, ولكن لست بارة بما يكفي أو بما يستحقه أبواي. أمي.. حبيبتي أضعها نصب عيني كلامها سلوتي.. نظرتها رؤيتي.. مرضها ألمي.. سعادتها فرحتي.. حزنها ضعفي وكسرتي.. هذه هي نظرتي لأمي, هي أم صالحة بشكل كبير, وتستحق أن أكون معها هكذا, حينما تمرض أكون تحت قدميها, وأتمني لها الشفاء العاجل, وعن جد أجد قلبي كلما يراها ينطق من داخله ب( يا حبيبتي يا ماما).. حين تحزن لأي خلاف زوجي عادي بينها وبين أبي وقتها أكن بداخلي غضبا وغيظا تجاه والدي حتي لو لم أكن أعرف الخلاف أو أنها قد تكون هي المخطئة, ومرت علي سنوات عديدة أعيش مع والدي وهذه هي حياتنا وهذه هي مشاعري. وفجأة مرض والدي مرضا شديدا ومفاجئا وأحتاج أن يجري له جراحة عاجلة وعلي الفور دخل المستشفي وتحدد له ميعاد الجراحة لكن حالته الصحية والعمرية لم تكن تسمح بهذا إلا بعد مرور وقت في المستشفي لتجهيزه صحيا لإجراء مثل هذه الجراحة الدقيقة, ووقتها تذكرت ان لي أبا, تذكرت انه يستحق مني الاهتمام.. تذكرت حبه الجارف لي بلا حدود واهتمامه وانشغاله بكل أمور حياتي, وبكل مشاكلي, تذكرت انه هو الذي كان يعتبر فرحي فرحه, وحزني حزنه, وألمي ألمه, وسعادتي سعادته, تذكرت انه هو الذي كان عند مرضي يهرول بي إلي الطبيب ويحضر الادوية لي والطعام والشراب في السرير.. حينما كنت أطلب منه شيئا يفوق طاقته لمثل من في عمره كان يقبل لكي يرضيني.. تذكرت حينما كان لا يناديني إلا ب يا حبيبتي, تذكرت تودده لي دائما حتي أكون أنا راضية عنه وليس العكس, تذكرت حينما كان يمرض ويطلب مني ألا أتركه في الحجرة وحده لانه يريد أنسي له.. تذكرت حينما مررت بمحنة كانت بمثابة قصمة ظهر له, تذكرت حينما أخذ بعدها يدللني وكأني ابنة الثلاث سنوات, تذكرت سماعي له بالدعاء لي في صلاته أن يفرج الله كربي, تذكرت حينما كان لا يتمالك نفسه, ويبكي أمام الناس إشفاقا منه علي كربتي, تذكرت نظرته المتأملة لي حينما أمر أمامه في المنزل حينما كان بمناسبة أو بدون مناسبة يعرض علي المال لكي اشتري كل ما أرغب, تذكرت حينما كنا نختلف وقد أكون أنا المخطئة ويأتي هو ويصالحني ويسامحني علي خطئي.. تذكرت كل هذا وهو في غرفة العمليات, ونحن ننتظر خروجه لنا معافي, وأنا أخطط لتغيير خطة حياتي معه, أو بمعني أصح أن أبدأ أنظر اليه فهو يستحق مني كل حب واحترام وتقدير, وانتظرت خروجه حتي أقبل يديه وأكون خادمة تحت قدميه وأن أرافقه رحلة علاجه وأن أستقيل من عملي كي لا يخدمه أحد غيري. وبدأت أشعر بالحب والأمل والطاقة الجميلة تدب بداخلي تجاهه لعمل كل ما نويت عليه, وجلست أقرأ له القرآن الكريم وأدعو الله أن يشفيه, حتي سمعت في ميكروفونات المستشفي نداء عاجلا من الطبيب الذي يجري له العملية لكثير من أطباء المستشفي. حاولت أن أتمالك نفسي وألا أتبع وساوس الشيطان, وأنا أفكر في أنه قد يكون حدث له مكروه, واستعذت بالله وأكملت قراءة القرآن حتي دق باب الحجرة التي ننتظره بها, وإذا بالممرضة المرافقة له تقول البقاء لله يا جماعة, استرد الله وديعته, احتسبوه عند الله شهيدا. إيه مات؟ مات؟ بابا مات؟ إنا لله وإنا اليه راجعون.. إنا لله وإنا اليه راجعون.. بابا مات من غير ما أودعه, من غير ما أقبله, من غير ما أحتضنه, يعني ايه؟ يعني مش هشوفه تاني؟ يعني مش هقوله بحبك يا أحن أب في الدنيا؟ آآآآآآه وألف آآآآآآه أرحمه يارب وسامحني يارب.. ياليت كان في عمره بقية!!