تتيح أدوات الإعلام الجديد, وفي مقدمتها شبكة الانترنت, للكاتب أن يطالع التعليقات الفورية التي تظهر علي الشاشة تعقيبا علي مقاله المنشور في الصحيفة في نفس اليوم. ولقد التفت مؤخرا إلي أهمية القراءة المنتظمة لهذه التعليقات التي لم أكن أطالعها نظرا لازدحام وقتي بعديد من المهام البحثية. غير أن مداومتي علي قراءة هذه التعليقات أظهرت لي أهمية العلاقات التفاعلية بين الكاتب والقراء, ممايبرز أهمية عملية التلقيReception وتنويرها للكاتب ذاته, لأنها تعطيه فكرة دقيقة عن اتفاق القراء مع الآراء التي طرحها أو اختلافهم معها, وسبب هذا الاختلاف. أكتب هذه الملاحظات بعد أن قرأت بعناية نحو ستة تعليقات لمجموعة من القراء المحترمين المتابعين لما أكتب, علي مقالتي الأخيرة الفردوس المفقود والدولة المنشودة والتي عالجت فيها موضوع اجماع الجماعات الإسلامية علي اختلافها علي الحلم بإعادة الخلافة حتي لو كان ذلك في ثوب جديد, والوسيلة لتحقيق ذلك, لا تخرج عن إقامة الدولة الدينية علي أنقاض الدولة المدنية العربية والإسلامية الراهنة, وسواء تم هذا الانقلاب بالعنف أو باستخدام الآليات الديمقراطية, بمعني اكتساح الانتخابات التشريعية وتشكيل وزارة إسلامية, تقوم بإعادة صياغة الدولة في ضوء تأويلهم لما هو الحكم الإسلامي. وقد قررت أن أدخل في حوار مع القراء الذين اهتموا بالتعليق علي المقال. وبداية أقرر أنني باعتباري باحثا في علم الاجتماع السياسي أصوغ اجتهادات وفقا لتوجهي الليبرالي, ونتيجة لقراءتي لمفردات المشهد السياسي والثقافي في المجتمع العربي المعاصر. وهذه الاجتهادات تحتمل الصواب, كما تحتمل الخطأ, ولذلك أرحب دائما بالانتقادات التي توجه لأطروحاتي الفكرية سواء تمت في محاضرة ألقيتها أو بصدد مقال كتبته. وقد بلغت التعليقات علي المقال ستة. وأولها: تعليق للدكتور علي فرج, أستاذ الهندسة بجامعة لويزفيل, بدأه بقوله: وما العمل مع الإخوان ويقصد الإخوان المسلمين. ويقول في تعليقه مانصه ماذا يريد.. الكاتب بهذا البحث؟ لنفرض أن الاخوان يريدون ما أوردته. نبدأ من الواقع, فهم موجودون أيا كان عددهم ولهم فكر أيا كانت درجة توافقنا معه. ولقد جربت معهم العصا أيام عبدالناصر والجزرة أيام السادات ومبارك مماهو معروف ومدون. ولا يجيز الكاتب إدماج الإخوان في العملية السياسية المعاصرة لأنه يري ذلك يتناقض مع مبادئ الدولة المدنية التي يحكمها دستور ديمقراطي؟ فماذا يري المصريون؟ الحقيقة أن هذا الموضوع جدير بالتعامل معه. ويخاطب المعلق الكاتب قائلا: قلت أن أي نظام لا يتغير بدون ضغط داخلي, ونحن نري أساليب الحزب الوطني كلها.. أدت إلي ما هو غير خاف عنا, فماذا يري الناس إذن؟ والواقع أن الدكتور علي فرج كان دقيقا غاية الدقة في وضع المشكلة, وفي تأكيده أن هذا موضوع جدير بالتعامل معه. والحقيقة أن الإخوان المسلمين منذ نشأتهم علي يد الشيخ حسن البنا رحمه الله عام1928 وهم يمثلون تحديات عنيفة للنظام السياسي المصري في مختلف مراحله التاريخية. ونبدأ بالمرحلة الليبرالية التي اصطلح علي أن بدايتها كانت مع صدور دستور عام1923 والتي امتدت حتي23 يوليو1952 حين قامت الثورة. في هذه المرحلة الليبرالية كان النظام السياسي ملكيا دستوريا, وكانت هناك تعددية حزبية, وفي مقدمة الأحزاب برز حزب الوفد باعتباره حزب الأغلبية الشعبية التي حاولت أحزاب الأقلية أن تنحيه عن الحكم, بتآمر كل من الملك فاروق وسلطة الاحتلال الإنجليزي. برزت جماعة الإخوان المسلمين بعد أن تطورت تطورا كبيرا من حقبة الثلاثينيات إلي حقبة الأربعينيات باعتبارها أهم جمعية منظمة لأنها كانت تفوق كل الأحزاب السياسية تنظيما. أصبحت لها فروع( شعب) في مختلف أحياء المدن وعواصم القري, وفق نظام محكم يكفل حشد الأعضاء بمئات الآلاف في أي مكان, حين يصدر لهم أمر المرشد العام بذلك, ولكن أخطر من ذلك شكل المرشد العام الشيخ حسن البنا جهازا سريا يتشكل من نخبة من الإخوان المدربين جيدا علي السلاح, ليقوم بتنفيذ الاغتيالات للزعماء السياسيين الذين لا ترضي الجماعة عن مواقفهم.. وهكذا صدر الأمر باغتيال النقراشي باشا رئيس وزراء مصر وكذلك المستشار الخازندار الذي سبق له الحكم ضد بعض الإخوان المسلمين المتهمين في بعض القضايا. وهنا ظهرت الخطورة البالغة لجماعة الإخوان المسلمين, خصوصا استخدامها العنف, وتأثير ذلك علي تعويق المسيرة الديمقراطية في البلاد, فصدر قرار بحل الجماعة, وما لبث أن اغتيل حسن البنا نفسه في ظروف غامضة, وإن كانت بعض الروايات تقول ان الحكومة القائمة وقتها خططت لذلك الاغتيال. والسؤال: هل كان يمكن إدماج جماعة الإخوان المسلمين في النظام السياسي المصري في المرحلة الليبرالية مع جهازها السري الذي يقوم بتنفيذ الاغتيالات؟ وإذا انتقلنا إلي مرحلة ثورة يوليو1952, فالمعلومات متوافرة عن الصراع بين الجماعة وقادة الثورة, لأن زعماءها أرادوا أن يكونوا أوصياء علي الثورة بحيث لا يتخذ قرار إلا بموافقتهم. حدث الصراع والذي كان حتميا, وحلت الجماعة وزج بمئات من أعضائها في السجون والمعتقلات. وفي عام1965 قبض علي تنظيم إخواني يعد انقلابا علي نظام الحكم بقيادة سيد قطب المنظر الإخواني الشهير, وصاحب نظرية تكفير الدولة والمجتمع, وتمت محاكمة أعضاء التنظيم وحكم علي سيد قطب بالإعدام. في هذه المرحلة الثورية أيضا لم يكن هناك مجال لإدماج جماعة الإخوان المسلمين في النظام السياسي المصري. وجاءت مرحلة الرئيس السادات الذي خطط فعلا لإدماج الجماعة في النظام السياسي المصري, لأنه دعا زعماء الإخوان في الخارج إلي العودة لمصر وأتاح لهم إصدار مجلة الدعوة مرة أخري وأفسح لهم مجال العمل السياسي وإن كان في سياق أن يدعموه في مواجهة الجماعات اليسارية والناصرية. غير أن التجربة لم تنجح بعد أن أعلن قادة الإخوان اعتراضهم علي اتفاقية كامب دافيد, وتحولوا إلي معارضة النظام بشكل مفتوح, مما أوجد صراعا بين السادات وبين الجماعة, انتهي باغتياله بواسطة تنظيم إسلامي متطرف خرج من عباءة جماعة الإخوان المسلمين. وجاء عهد الرئيس مبارك, وحدثت صراعات مكتومة بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام السياسي, وغيرت الجماعة من رأيها بصدد المفاضلة بين الشوري والديمقراطية وقررت أن تنزل حلبة العمل السياسي, واستخدام آليات الديمقراطية للوصول إلي السلطة ومن ثم تأسيس ما يحلمون به وهو الدولة الدينية. ونجح الإخوان المسلمون فعلا في مسيرتهم الانتخابية, ونجح منهم في دورة مجلس الشعب المصري الأخيرة86 نائبا وهو أكبر بكثير من كل مقاعد الأحزاب السياسية المعارضة, غير أن أداء هؤلاء الأعضاء لم يكن فاعلا, كما أنهم فشلوا فشلا ذريعا في تطبيق شعارهم الشهير الإسلام هو الحل لأنهم لم يقدموا أي حلول ناجحة لمشكلات مصر الحادة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويبدو أن نجاحهم في الانتخابات أغراهم بطرح فكرة تكوين حزب سياسي إسلامي, وأعدوا مشروعا وزعوه علي المثقفين المصريين لمناقشته, وهذا في حد ذاته مما يحمد لهم, ونعني حرصهم علي إقامة حوار حول أفكارهم. وكنت من بين المثقفين الذين تلقوا نسخة من المشروع, واكتشفنا من واقع النصوص أنه ليس سوي مشروع لتأسيس دولة دينية في مصر في ضوء مذهب ولاية الفقيه علي الطريقة السنية! إذ نص المشروع علي تشكيل مجلس أعلي للفقهاء تعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية وقرارات المجالس النيابية لإقرارها. وإن كانت الجماعة للأمانة بعد تلقيها انتقادات عنيفة علي هذا النص تراجعت عنه ولكن بعد أن كانت قد كشفت النقاب عن وجهها الحقيقي. ويبقي السؤال الذي أثاره الدكتور علي فرج وشاركه فيه محمد عبدالتواب في تعليقه حين تساءل أيضا وهذا نص تعليقه وماذا بعد.. لن أناقش فحوي رأيك ولكن أسألك ماذا تقترح إزاء وجود هذه الجماعة في الشارع المصري ومجالسه النيابية؟( ولا أظنك تنكر ذلك) وماهو الحل الديمقراطي الذي يرضيك؟ هل بتعليق المشانق؟ هل نفتح المعتقلات؟ هل نبادر بالنفي والتشريد؟ هل نصادر حقوق هؤلاء الإنسانية؟ أي عقاب تحب حضرتك أن توقعه علي أصحاب هذا المنهج؟ تري كيف يتخيل النظام المدني الذي تدافع عنه وسيلة التخلص من هؤلاء. نرجو أن يكون هذا هو موضوع مقالك القادم. وأعترف بأن أسئلة محمد عبدالتواب تضع علي عاتقي اقتراح حلول ديمقراطية لمشكلة معقدة غاية التعقيد لأنها تمثل خلطا شديدا مرفوضا بين الدين والسياسة, ليس ذلك فقط بل إن مشروعها الأساسي كما أسلفنا هو تقويض الدولة المدنية القائمة وإنشاء دولة دينية يحكمها الفقهاء! لقد تطوع بالاجابة معلق آخر هو السيد بكر حين قرر مطمئنا رغم أنف العلمانيين( فلول الشيوعيين) سوف تعود دولة الخلافة, دولة الشوري التي يتعايش فيها المسلم مع المسلم في ظل شرع الله عز وجل. أرأيتم كيف أن المشكلة معقدة ولا تجدي الإجابات السهلة في الإجابة عن أسئلتها المركبة؟ المزيد من مقالات السيد يسين