.. هو عنوان المجموعة القصصية للقاص والناقد الأكاديمي, والمترجم د. جمال التلاوي, يشف العنوان بداية عن دخيلة السارد, وكأنه يتكلم عن المتحول ذاك الذي كان يوما ما هنا, أكد هذا الفهم المسافات التي قطعها أبطال قصص هذه المجموعة الذين حضروا دون أسمائهم, بين طموحهم وآمالهم وما انتهوا إليه, من فناء مرة, أو صمت وانكسار وخفوت مرات ومرات, سواء علي المستوي الجسدي, أو المستوي المعنوي. تكرر عنوان المجموعة( الذي كان) علي نحو ملحوظ في عناوين قصصها, ففي مفتتح العمل تحكي أول قصص المجموعة وعنوانها الطائر الذي كان عن طائر محبوس في حديقة الحيوان, قرر السكوت, حتي أتته فتاة من الحضور, وأغرته بالغناء, ولما ابتدأ غادرته, وتركته وحيدا في شجوه, الذي أخذ يعلو, وظل صوتها يخفت, حتي تلاشي, لكنه لم ييأس, وظل سادرا في شجوه, وكأنه يدعوها إلي الرجوع, هنا تنتهي القصة, ويبقي السؤال, هل ظن المتحلقون حول قفص الحديقة أن الطائر يغني؟ ربما, فهم لايعرفون أن صوت الطيور الصغيرة الجميلة, ليست كلها غناء, فهي تكره وتحب, تقسو وتحنو, لكنها تبدو جميلة ومرحبة لأننا لانفهمها! وضع المؤلف في قصصه كلها فاصلا بين الاسم والمسمي, وكأنه يؤكد مايشير إليه العنوان من تحول حاد في الكينونة, يصعب أن نضع لحامله اسما واحدا, لأنه ذلك المتحول الذي يدل علي أي واحد منا, الأسماء في قصص هذه المجموعة لاتدل علي مسمياتها, فقصة( الطائر الذي كان) تجري أحداثها في حديقة حيوان, لكن الطائر فيها سجين! وتجري قصة( الصفعة) في قهوة, مع فتوة يتعرض للإهانة! ويضرب علي قفاه أمام الجميع, قصة( الياسمين) تجري أحداثها في حقل بجوار جذع شجرة لا فائدة منه!( عبث) قصة تدور أحداثها بين الشارع والبيت, بالرغم من وجود عيد, فإن أوصاله مقطوعة, لأنه دون أطفال يسمح لهم باللعب فيه, أو الاحتفال له! وتجري أحداث( قراءة في نص حجري) بجوار نهر, ترفض الفتاة أن تكون عروسا له! بسبب الفتي, وهو فاصل آخر بين مانتوقعه من الاسم عروس النهر ومايسلكه المسمي,( إذا زلزلت الأرض) قصة تجري في بئر, تذكرنا بقصة يوسف عليه السلام, قصة الأخوة والغدر!( أغنية رمادية) قصة اللا مكان, لكن المفارقة واضحة في العنوان,( أشواك الورد) تجري أحداثها عبر مفارقة أخري, فعلي الرغم مما بين المرأة والوردة من طباع, فإن الفراق بين الرجل ومن يعشق, الذي أكده حوار ملآن بالأشواك من امرأة ناعمة! يتضح جليا فيه هذا الفاصل بين الاسم والمسمي,( نهاية) قصة تجري أحداثها في البيت, الذي يحمل كل البدايات, وهي قصة أري أن مكانها الصحيح يجب أن يكون في آخر المجموعة( زلزال) قصة عن البيت الذي سقط.. أما( نغم) فهي القصة الوحيدة في المجموعة التي تدل علي مكان آخر, عن أرضنا المحتلة في فلسطين وتجري أحداث قصة( حين تدلي الرأس) في اللامكان, وتقوم أحداث قصة( شرفة تطل علي النهر) بين البيت والنهر الذي جف, وبات يحمل سباعا تخيف! إنها الأماكن المعتادة, التي تحملنا إلي قيمة ثقافية مستبطنة, من خلال المكان, لكنها لاتظهر مباشرة إلا بعد تأمل. ثم تأتي آخر قصص المجموعة مشابهة لعنوانها:( الطفل الذي كان), وفيها نجد تماثلا كبيرا بين طائر القفص الذي كان يغني أو هكذا كان يبدو لزائري الحديقة, ثم صمت طويلا وذلك في أول المجموعة, وهذا الطفل الذي كان يحبو, ثم أصبحت قدماه سجنه الأليم الذي منعه الانطلاق, فظل حبيس مصيره مثل الطائر تماما, لكنه في النهاية قرر أن يتحمل الألم ويسير رغم عجزه, كما فعل الطائر من قبل وقرر الشجو, رغم سجنه, فجناحه حبيس لا فائدة منه, مثل الطفل تماما, قدماه حبيستا عجزه, ومع ذلك قرر كل منهما الشجو في الحياة! إن بنية التوازي هنا واضحة بين الطائر الذي كان والطفل الذي كان وبين أول قصص المجموعة وآخرها, يظهر الموت ويختفي, الموت المعنوي بخاصة, وهذا ما عبر عنه عنوان المجموعة( الذي كان)! إنها قصص المسافات التي لاتحترق, فتظل فاصلة بين الأسماء ومسمياتها. اهتمت هذه المجموعة بدهشة الطفولة, بنظرة الطفل إلي الأشياء, وبذكريات هذه النظرة التي صاغت مشاعرها بعد نضوجها في إطار لغوي, يتسم بالسبك علي مستوي بناء العبارة, وبلاغتها من جهة, وبالحبك علي مستوي تقنيات القص من جهة أخري, وهي تقنيات اختفت بالمفارقة, بأنواعها, درامية, رومانسية, وغيرها, وهذا ما أضفي شجوا علي المنتج السردي, مسها بالنبل رغم الإحباط والألم, من أجل هذا يشعر قارئ هذه المجموعة بشئ يشدنا إلي الأمل والإرادة رغم آلام الواقع, وإحباطاته. يقول جمال في قصة حين تتدلي الرأس: وحين تدلي الرأس وسقط, كانت أمة تتداعي(...) لكن أطرافا كانت تنتفض, وتتحرك(...), ثم يعلق قائلا حيث تنتفض الأطراف, فإن تاريخا جديدا يحاول أن يصلح تواريخ سابقة. ربما وجدنا في هذه المجموعة قصصا قد مستها رؤية أيديولوجية ما علي نحو مباشر, لكن شاعرية أسلوبها, وحفاوتها بالحنين, علي مستويي الموضوع والشكل, أنقذتها من الرتابة, وأضفت عليها دهشة, وبراءة في التكوين والتلقائية, رغم حضور التقنية والاتقان معا. أما معظم الشخصيات المحورية في المجموعة فمن الرجال. والسارد في معظم قصصها أكبر من الشخصية, أو ما يسمي في التقنيات السردية الرؤية من الخلف, ذلك لأن السارد هنا أكثر معرفة من الشخصية الروائية, فهو يري من خلف الجدران, بل يشهد مايدور في عقل أبطاله, ومعظم قصص المجموعة لاتقوم علي مفاجأة تخلقها الحبكة, وعلاقات الحادثات السببية, فنحن لا نتعرف علي شخصيات هذا العمل عن طريق ما نسمعه منهم, بل نتعرف عليها عن طريق ما نسمعه من وعي الراوي. أما نهايات القصص فقد جاءت مفتوحة تقترح علي القارئ ولا تعلمه, أو تكتفي بإخباره. تبدأ القصص دون أن تحدد النهاية, تاركة فجوة في العمل, وفي السياق الأسلوبي في الجملة, حيث يجب أن يقوم المتلقي بواجب استكمالي فيها. النهايات هنا لاتخبرك عن شئ مهم في السياق, ولاتحمل حسما ما للأحداث, أو تأطيرا للعمل, بل تتركه مفتوحا علي مصراعيه من دون نهاية, ذلك بسبب هيمنة الفكرة علي الراوي من المفتتح, فقد سكبها المؤلف في السرد, قبل أن يؤطرها البناء. ولم تخل المجموعة في بعض نهاياتها من حس سحري, رغم واقعية النصوص بعامة, يقول جمال التلاوي في قصته إذا زلزلت الأرض( نحمل ذخيرتنا الأبدية: الأحجار النابعة من الآبار التي عشنا عليها طويلا, والأحجار النابعة من قلوبنا, التي لم تتحجر إلا لوجوههم). إنها وجوه المحتل الكريهة. إنه يستدعي في نصه طفل الحجارة الذي لايغيره الزمن, لأن موته أقرب إليه من الحياة, ويقول في قصته القصيرة نغم: في المساء جاءت نغم إلي داره[ دار شادي, الشهيد الصغير] جلست بجوار أمه, سألت عن حقيبته, فتحتها, وأخذت منها الأحجار الصغيرة المتبقية, كان صوت فيروز يتردد في داخلها( ضاع شادي) لكنها لم تستطع أن تغني, في الصباح, وهي تغادر الي مدرستها, وضعت كتبها بنفسها في حقيبتها, وفي كتاب العربي وضعت صورته, وبجوار كتاب الحساب وضعت الاحجار الملونة بدمه, ثم أغلقت حقيبتها, وحيت أمها, وخرجت الي مدرستها, العينان محدقتان في بيت( شادي), وصورته تملأ الكون أمامها, كانت قد حددت ماتريده, وبدأت خطوتها مسرعة. لقد عرفت نغم الصغيرة حبيبة شادي الصغير, خطوتها, وللاسمين دلالة, فلا نغمة دون شدو, أضاع شادي هنا؟ أم أن شادي باستشهاده لا يضيعنا ولايضيع؟ ذلك لأنه اذا كان الشادي يموت, فإن الشدو لايموت.