حين نشرت تصريحات الأنبا بيشوي, في15 سبتمبر الحالي, انتاب الكثيرون حيرة شديدة, وارتباكا ذهنيا ونفسيا لا حد له. كنت أحد هؤلاء المذهولين, من بين75 مليون مصري مسلم طالما اعتقدنا أننا مواطنون أصلاء أصحاب هذه الأرض الطيبة, ونؤمن بأننا نعيش في أخوة ومودة مع مصريين آخرين أصلاء أيضا ارتضوا رسالة السيد المسيح عليه السلام دينا لهم, وان الخلافات التي تظهر بين الحين والآخر ليست سوي احتكاكات طبيعية بين أشقاء لكل منهم وجهة في الحياة لا أكثر ولا أقل. لكن هذا الاعتقاد الذي كنت اظن, مثل ملايين المصريين الآخرين, أنه راسخ وعميق بدا واهنا وضعيفا ولا معني له, بل لا أصل له. لقد اكتشفت أنني مجرد ضيف عابر ولكن طالت ويا للهول إقامته1400 عام متصلة بلا انقطاع, وبالتأكيد فعل فيها الكثير مما يغضب أصحاب الأرض الأصلاء, الذين باتوا يعطون الاشارات تلو الاشارات بأن مدة الضيافة قد انتهت, وأن علينا المغادرة بأسرع ما يمكن, فإن لم نقم بالمغادرة عن طيب خاطر, فربما نغادر بما لا نرتضيه لأنفسنا ولكل الذين نحبهم ويحبوننا. وبينما أفكر في وجهة الرحيل, هل إلي الشرق أم إلي الغرب, وهل هناك من سيرحب بنا ونحن الذين لم نعد سوي ضيوف عابرين بلا جنسية ولا هوية ولا حتي جواز سفر, جاء الفرج, فقد أوحت إلينا قيادة دينية كبيرة بالحل المنتظر والمرغوب, وهو أن نغير ديننا, وأن نحرف قرآننا وأن نسلم بما هو عكس عقيدتنا, وأن نقدم فروض الطاعة والولاء إذ رغم أننا الغالبية عددا, لكننا الأقلية نفوذا وسطوة, وما علينا سوي الاذعان. فلربما يساعد تغيير العقيدة بالحسني علي أن نبقي في أرض مصر المضيافة, والتي ستكون عندها ذات دين واحد, ومؤسسة دينية واحدة, وقيادة واحدة تمسك بشئون الدنيا وشئون الدين معا. لكن ما ليس واضحا بعد, هل مجرد تغيير عقيدة الغالبية المسلمة حسب هذه النصيحة الغالية سيؤدي إلي اكتساب صفة ابن بلد أصيل, أم أن الأمر سيتطلب اختبارا, وبالتالي ستكون هناك أكثر من مرحلة زمنية وروحية يجب المرور بها قبل الوصول إلي المرتبة الأعلي والأغلي, وهي مرتبة ابن البلد الأصيل, كأن يمر المرء أولا في مرحلة مقيم تحت الاختبار, وإن نجح صعد إلي المرتبة الثانية وهي مواطن غير أصيل أو شبه أصيل, وإن نجح في الاختبار تحول إلي مرتبة ابن البلد الأصيل. فالمهم في هذه الدورات والمراحل الاختبارية القاسية أن يثبت المرء أنه غير دينه عن قناعة ودخل دين الدولة الجديدة عن إيمان راسخ ورضا نفس بلا حدود. وحين تصبح مصر بكافة أهلها علي دين واحد سوف تنتهي قطعا كل الأزمات التي تنغص علينا حياتنا, فستنتهي أحاديث الفتنة الوطنية والدولة المدنية والمواطنة, وستختفي مطالبات إلغاء المادة الثانية من الدستور, وسيغلق حتما ملف بناء دور العبادة الموحد, وبالتأكيد لن يكون هناك اضطهاد من الغالبية للأقلية, ولن يكون هناك ادعاءات بخطف البنات لتغيير دينهن وتزويجهن قسرا إلي الضيوف الذين طالت ضيافتهم وأصبحوا عبئا ثقيلا لابد له من حل جذري. فالكل سيكون سعيدا وودودا وشاكرا لبلده الجديد وقيادتها ذات الدين الواحد. دولة الدين الواحد ستكون هبة من السماء لنفسها ولغيرها أيضا, فكما نري المطالبين بإسرائيل دولة يهودية, سنري دولة كبري بجوارها مسيحية, وعلي الجانب الآخر من الحدود ستكون هناك دولة مسلمة او إسلامية للمسلمين وحسب, وبذلك يتحقق الاستقرار المنشود إقليميا وعالميا. فكل أصحاب دين يمكنهم أن يعيشوا في البلد الذي سيحمي دينهم وينصر عقيدتهم. لكن الأمر لن يكون مثاليا علي هذا النحو, فبعد تفكير أطلت علينا بعض مشكلات, منها مثلا, أي مسيحية ستكون عليها مصر المحروسة, فهناك أكثر من فهم مسيحي للكتاب المقدس ليس في مصر وحسب ولكن في العالم كله. كما أن هناك اكثر من فهم مسيحي لهوية السيد المسيح, وهل هو عربي مثلا نظرا لنشأته في فلسطين, أم كان صاحب الرسالة وكفي, وهل رسالته لليهود وحسب أم للعالمين. كما أن هناك طوائف بينها خلافات في العقيدة, فلدينا في مصر فقط انجيليون وكاثوليك وارثوذكس وطوائف أخري صغيرة العدد لكنها موجودة, ومنها من يكفر الآخر, كما سمعنا في الاسابيع القليلة الماضية من أحد القيادات الكنسية الشهيرة. بالقطع سيكون الأمر أفضل إن غابت الخلافات عن الكنائس المصرية, واصبحنا أمام كنيسة واحدة ذات دين واحد, حتي إذا دخل المسلمون فيها دخلوا بسلام ووئام, ولا يكونون وقودا لخلافات بين هذه الكنيسة أو تلك. ولكن هنا يثور تساؤل كبير, فإذا كانت الخلافات بين الكنائس نفسها قد استمرت اكثر من الفي عام, ولكنها تتعايش مع بعضها بحكم اتباع أصل عقيدي واحد, فهل يمكن أن تمثل مصر تجربة مختلفة, بأن تنهي هذه الخلافات في مدة زمنية معقولة, وليكن في عام مثلا أو ربما عامين, حتي تجهز نفسها لدولة الدين الواحد الذي يلتف حوله اتباعه المؤمنون دون ذرة من خلاف أو شقاق؟ تساؤل تتفرع عنه تساؤلات أخري لا تقل أهمية, من قبيل: ماذا لو لم تتوصل الكنائس المصرية إلي حل هذه الخلافات فيما بينها في هذا المدي الزمني المعقول, هل يبقي الوضع المصري علي ما هو عليه من شكوك وهواجس متبادلة؟, وكيف يتصرف الضيوف المسلمون إذا استمر الوضع هكذا, وهل يمكن أن يشاركوا في هذا الحوار باعتبار أنهم سيكونون من اتباع هذا الدين الواحد الجديد حال التوصل إليه, أم سيقال لهم هذا ليس شأنكم لأنكم ما زلتم مسلمين؟ وهل يمكن لخمسة وسبعين مليون مسلم أن يظلوا هكذا في حال انتظار وفي حال ضيافة وشعور بالغربة عن الوطن وعدم تجانس مع الدولة والمجتمع؟ فما هو الحل إذن؟ هل مثلا أن تغير الاقلية دينها وتنضم إلي دين الغالبية الكاسحة؟, وبالقطع تحول الأقلية سيكون أسهل من طرد الغالبية, وبدلا من دولة مسيحية متوهمة تكون دولة مسلمين وحسب. وكفي المؤمنين شر القتال. الأمر هكذا يبدو معقدا, بل شديد التعقيد, فكلما رغبنا في إغلاق أحد الابواب فتح ألف باب, وكلما تعمقنا في مشكلة وجدنا أنها تلد ألف مشكلة أخري, بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه كلما تعمقنا اكثر لوجدنا أن ما يفكر فيه البعض هو ضد ناموس الكون القائم علي التعددية والتعارف والاشتباك مع الآخر بالحسني والاحترام, ولاكتشفنا أننا نسير عكس التاريخ, تاريخ الانسان والأفكار والأديان والأماكن أيضا, وأننا ننشد الوهم ونعتقد أنه المثال الراقي, في حين انه خزعبلات وتهيؤات مرضي نفسيين, وأننا نتطلع إلي أن نكون آلهة تعيد تشكيل الناس والعقول والعقائد, في حين أننا مجرد بني آدميين لا حول لنا ولا قوة, وأننا مجرد مخلوقات من ضمن آلاف المخلوقات الأخري التي نعرفها أو لا نعرفها, واننا نعتقد أننا مسلحون بقوة إلهية, في حين أننا مجرد عباد صالحين أو غير صالحين لا نملك إلا قوة البشر المخلوقين التي ما زالت قاصرة عن إدراك كل ما يتعلق بعظمة الخالق سبحانه وتعالي. هكذا تزداد الحيرة, فما هو الحل إذن؟ بعد تفكير عميق به جزء من العقلانية وبعض التواضع والاعتراف المسبق بالتقصير, لم نجد حلا إلا أن تبقي مصر علي ما هي عليه الآن حيث غالبية أبنائها المصريين الأصلاء أصحاب الأرض الطيبة, المصريون قلبا وقالبا, مسلمون لأنهم ارتضوا هذا الدين عن قناعة وإيمان وليس عن ضغط ومال وسيف وإكراه, ولا يوجد أحد منهم علي استعداد أن يغير قرآنه أو يحرفه ليرضا عنه آخرون يشككون في دينه وهويته وحقوقه, أو أن يقبل بدولة تقودها مؤسسة دينية تتعالي علي الناس جميعا بدون مبرر. كذلك أن يبقي المسيحيون علي ما يريدونه من تعددية كنسية, سواء أرادوا الحوار فيما بينهم أم اكتفوا بالتعايش الضمني, ليس فقط إعمالا لحقوق الانسان, بل أيضا استمرارا لتقاليد مصرية تمتد إلي عمق التاريخ بلا تزوير أو إهانة أو استكبار او استعلاء او استقواء بالخارج. بعبارة أخري لا حل سوي أن تبقي بلادنا دولة مصرية بتاريخها وأهلها, مدنية تتصالح مع الاديان كلها, عربية بهويتها وحضارتها, ومسلمة لغالبيتها الكاسحة, رءوفة بمسيحييها وبكل من يرتضي دينا آخر غير دين الغالبية. إنه الحل العبقري الذي جاد به الزمن ولن تستطيع أي قوة علي الأرض أن تغير فيه ولو شعرة واحدة. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب