كانت الساعة قد جاوزت الثانية في مكتبي حينما فتحت جهاز الكمبيوتر لأول مرة يوم الاثنين وفي وقت متأخر عما هو معتاد; وكما جري الأمر دائما ذهبت فورا للبحث عن التعليقات التي ترد علي مقالي; فإذا بي أجد صورة الصديق معالي الوزير كما اعتدت أن أقول له أحمد ماهر متصدرة موقع الأهرام, واحتاج الأمر دهرا من الاستعداد للتصديق أن صاحبي ذهب إلي حيث لا يعود أحد. وببساطة كان مصباحا منيرا ووهاجا وممتلئا بالحيوية, وفجأة, وكنوع من سرقة الزمن والطاقة, تم شد سلك الكهرباء, وامتدت ظلمة حالكة. سألت فورا عن التفاصيل, وجاء الذنب مفزعا, وهو أن الجنازة قد تمت بحضور الرئيس بالفعل, ومع فقدان فرصة وداع أخير, كانت الذكريات تتدافع معلنة عن إنسان جاء خطوة خطوة ليكون جزءا من تلك اللوحة الكبيرة من الشخصيات العامة والنبيلة التي تحيط بساحة العامل العام وتحتك وتتفاعل معها في منتديات كثيرة, تفرح كثيرا إذا أهلت, وتفتقدها أكثر إذا ذهبت. كان اللقاء الأول في موسكو, وبالتحديد في24 أكتوبر1991 حينما ذهبت لأول وآخر مرة إلي الاتحاد السوفيتي في ندوة عقدتها جامعة كاليفورنيا بالاشتراك مع معهد سوفيتي لا أذكر اسمه, ولكنه وهو المضيف قرر استخدام تمويل الندوة في أمور أخري ليس من بينها إطعام المشاركين, فلم يكن هناك صباحا وظهرا ومساء إلا عينات قليلة من الطعام لا تشبع ولا تغني من جوع. وفجأة جاء الإنقاذ بأكياس كبيرة فيها من الفاكهة وأنواع الخبز والأجبان والطعام الجاف ما يكفي الفترة ويزيد. ولم تكن الأكياس فقط للمصريين ولكن لكل العرب. وعندما شكرته بعد ذلك بسنوات علي إنقاذي من المجاعة, قال لي بخجل إن الفضل في ذلك يعود لزوجته الفاضلة. كان ذلك مجرد المقابلة الأولي, والتي تكررت في عشاء آخر في موسكو, ومن بعدها زادت عندما استقر به المقام في واشنطن التي كنت أذهب إليها بكثرة خلال التسعينيات من القرن الماضي, وفي كل مرة كنت, وكان أيضا, حريصا علي اللقاء. من ناحيتي كان ذلك ضروريا أن أعرف وجهة النظر المصرية قبل أي حديث لي في العاصمة الأمريكية, ومن ناحيته كان يريد رد فعلي وتحليلي لما يجري, وعلي الناحيتين كان الأمر ينتهي في النهاية إلي نقاش عميق فيه من الاختلاف ما هو أكثر من الاتفاق, ولكن فيه من الود والاحترام والتقدير ما يكفي الدنيا كلها. واستمر الحال كذلك حتي جاءت اللحظة العظمي عبر سنوات طويلة كان جزءا منه في واشنطن, ولكن الجزء الأكبر كان في القاهرة حيث وجدته يمثل مدرسة متكاملة للدبلوماسية المصرية كانت لها آراؤها الخاصة بدور مصر الإقليمي وإدارة الصراع العربي الإسرائيلي وضمت بالإضافة إليه السفراء والوزراء عمرو موسي ونبيل العربي وعبد الرءوف الريدي ومحمد شاكر وآخرين. وهي مدرسة عبرت عن نفسها داخل وخارج السلطة المصرية وتركت لنفسها بصمات علي السياسة المصرية. تفاصيل ما تطرحه هذه المدرسة سوف يظل مكانه التاريخ, والمذكرات, والدراسات المتخصصة, ولكن الأمر أصبح عمليا تماما حينما تزاملت مع معالي الوزير في لجنة الشئون العربية والأمن القومي في مجلس الشوري علي مدي العامين الماضيين تحت القيادة النشطة للسفير محمد بسيوني. وهناك, وكما تشهد المضابط, دارت أكثر المناقشات عمقا حول موقع مصر من العالم, وإدارة التهديدات المختلفة للأمن القومي المصري, من مواقع وطنية خالصة. وفي بعض الأوقات بدا وكأن اللجنة مستمتعة بالخلاف الذي يجري بين مدرستين لكل منهما حجيتها, ويجري بلورتها في لهجة ولغة راقية. وللتاريخ فإنني لم أجد أبدا أن المثل الذي يقول أن الخلاف لا يفسد للود قضية له معني في الواقع إلا حينما كانت تجري المناقشات والحوارات بيني وبين معالي الوزير, بل إن الود تحول إلي صداقة عميقة واحترام متبادل. سوف افتقد أحمد ماهر كثيرا, ومن المؤكد أنني سوف أفتقد الخلاف معه, وفي كل الأحوال سوف أظل نادما أنني عرفته واقتربت منه متأخرا كثيرا. خالص التعازي لزوجته الفاضلة, وأسرته الكريمة, والسفير علي ماهر, وإنا لله وإنا إليه راجعون. [email protected]