من الممكن إحصاء عدد الزيارات التي قام بها سكوت جرايشن المبعوث الأمريكي للسودان إلي إقليم دارفور, لكن من الصعوبة معرفة عدد جولاته إلي جنوب السودان. فقد شد الرجل رحاله إلي الأخير كلما وطأت أقدامه أرض السودان. وغاب كثيرا عن الإقليم الأول خلال الأشهر الماضية, مع أن تكليفه بمهمته قبل نحو عامين تزامن مع اهتمام دولي وأمريكي صارخ, من أجل البحث عن تسوية عاجلة في دارفور. في حين كانت تسوية الجنوب واقعة فعلا وبصورة رضائية. والأولي أن يبذل جرايشن جهدا مضاعفا للوصول إلي النتيجة ذاتها في الغرب, لوقف النزيف الانساني, الذي انتفض بسببه العالم, وكال الاتهامات إلي رأس النظام السوداني, بزعم ارتكابه جرائم حرب, أضيفت إليها لاحقا تهمة الإبادة الجماعية. وما حصل أن جرايشن ومعظم طاقم الإدارة الأمريكية تجاهلوا ما يجري في دارفور وركزوا التصورات والترتيبات والتصرفات علي الجنوب, باعتباره ثمرة اقترب وقت قطافها أو جائزة حان تسلمها. سيؤدي التأخير في القطف أو التتويج إلي نتائج سلبية خطيرة. أفضت هذه الرؤية التي تحكمت في كثير من التحركات الأمريكية إلي غض الطرف عن مجموعة من الممارسات, تتنافي مع المعايير الدولية التي تتشدق بها الولاياتالمتحدة في مجالي الديمقراطية وحقوق الانسان. فواشنطن باركت انتخابات إبريل الماضي ولم تلتفت إلي ما شابها من تجاوزات مختلفة وعيوب متعددة, لأنها كانت تري فيها خطوة أساسية لاستكمال الطريق الذي رسمه اتفاق نيفاشا والذي يصل بالجنوب إلي إجراء استفتاء علي تقرير المصير. وحتي المعارضة التي تحرص واشنطن علي الحوار معها في عرض الدنيا وطولها وتطرب لنباحها وصراخها لم يكن لها نصيب في السودان. وضربت الولاياتالمتحدة عرض الحائط بالملاحظات والنداءات التي قدمها قادة وأحزاب سودانيون. وسدت الآذان لعدم سماع صوتهم في منظمات ما يوصف برعاية الديمقراطية في عدد من الدول الغربية. الأخطر أن سياسة الجزرة الأمريكية تقدمت كثيرا علي العصا. وبدت توجهات الرئيس باراك أوباما التي احتضنت الأداتين قاصرة علي التلويح بالحوافز والتلميح بالإغراءات. وعجزت عن استخدام العصا أو حتي إشهارها صراحة. الأمر الذي فهمته الخرطوم جيدا وحاولت الاستفادة منه, تارة لتعظيم المكاسب وأخري سعيا وراء تخفيف الخسائر. واضطرت واشنطن مؤخرا إلي تقديم مقترحات اقتصادية مفيدة لحزب المؤتمر الوطني في مرحلة ما بعد الاستفتاء. وخاض جرايشن, مدعوما من الرئيس أوباما معركة خفية ضد سوزان رايس المندوبة الأمريكية في الأممالمتحدة, لجعل الجزرة متقدمة خطوات عن العصا. ونجح في كسب المباراة بفارق كبير من النقاط السياسية, لأن التصعيد في هذه اللحظة الحرجة قد يقلب الطاولة علي كثير من الترتيبات الأمريكية في السودان ومحيطه الجغرافي. في حين يضمن الاستمرار في تغليب سياسة الجزرة مرور الفترة المتبقية علي استفتاء تقرير المصير بسلام وحدوث الانفصال بصورة وفاقية, وهو ما يغير وجه السودان رضائيا ويعيد تشكيل خريطته جغرافيا وسياسيا, بما يفيد المصالح الاستراتيجية المتشابكة للولايات المتحدة في المنطقة. الحاصل أن الرئيس أوباما ومهندس سياسته مع السودان سكوت جرايشن, متأكدان أن الانفصال واقع لا محالة, فقد أصبح هذا الطريق هو الخيار الوحيد لدي غالبية الجنوبيين. وانخفض أو اختفي صوت الوحدويين. وبدأت المسيرات والمظاهرات المؤيدة له عنوانا لجوبا في المرحلة الراهنة. بالتالي من الواجب علي واشنطن إزالة الحواجز أو تجاوز العراقيل السياسية والأمنية والاقتصادية والجغرافية وغيرها, التي تقف عائقا أمام الانفصال, بذريعة الانتصار للسلام والعدالة والمساواة. وهي شعارات يصعب إنجازها بالأدوات التصعيدية التقليدية. لذلك كانت مصطلحات الليونة والمرونة والمهادنة والتنازلات المتبادلة من أفضل الوسائل التي تؤدي إلي الخروج بهذا الهدف إلي بر الأمان. وأشد ما تخشاه واشنطن أن تخرج الخلافات المتكررة بين شريكي الحكم, المؤتمر الوطني والحركة الشعبية, عن نطاق السيطرة وتنتقل من المسار السياسي الواضح إلي مسار أمني مجهول, يجعل الانفصال عنوة خطأ استراتيجيا من الضروري عدم الوقوع فيه, لأن عدواه من السهل أن تنتقل إلي خارج حدود السودان, بما يخلط الكثير من الأوراق في المنطقة. من هنا تبدو الليونة مع الخرطوم مسألة مهمة, علي الأقل لتخفيف هواجس الأصدقاء والحلفاء من مخاطر الانفصال. نجح الرئيس أوباما من خلال مؤتمر نيويورك الخاص بالسودان يوم الجمعة الماضي في أن يرسل إشارة قوية, مفادها أن العالم ملتزم بضمان إجراء الاستفتاء في موعده. وكانت النبرة الهادئة والحرص علي تقديم المساعدات اللازمة أمرين ظاهرين في المؤتمر, لتحفيز شريكي الحكم في السودان علي تجاوز القضايا الخلافية وعدم تعطيل الاستفتاء, الذي سيحقق اتمامه في هدوء حلم أوباما في تقديم نموذج للتسوية السياسية المليئة بالملفات الشائكة. وإذا كان الرئيس السابق جورج بوش رعي اتفاق نيفاشا, فإن الأخير سيحسب له أجر التنفيذ. وبذلك يكسب أوباما مرتين. مرة علي المستوي الداخلي, حيث يحظي استفتاء جنوب السودان بدعم ما يسمي بالنواب السود وغيرهم في الكونجرس وتأييد كثير من المنظمات الانسانية والكنسية التي تبذل جهودا مضنية لاعلان دولة جنوب السودان. ومرة ثانية علي المستوي الخارجي, لأن إنجاز الاستفتاء ووقوع الانفصال بصورة سلمية, يقود إلي مباركة أطراف إقليمية ودولية, كانت رافضة أو متحفظة علي هذه الخطوة وتخشي من عواقبها الافريقية. وفي النهاية يبعث الاستفتاء بإشارة تفاؤل تؤكد قدرة أوباما علي تطبيق منهج التسوية السياسية في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان. والعكس صحيح, بمعني أن فشل إجراء الاستفتاء سيؤدي إلي سقوط هذا المنهج. والعودة إلي مربع الحرب الأهلية بشكل أكثر شراسة, في ظل تراكم الأسلحة الحديثة في مخازن كل طرف وزيادة الرواج في تجارة الميليشيات والمرتزقة في السودان. والأخطر أن يتحول الجنوب إلي بؤرة جذابة للعناصر المتطرفة, التي تتغذي علي شيوع الانفلات. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تخشي نتائج التدخل المباشر في الصومال, فإن امتداد قوس الأزمات الحادة من هناك وحتي السودان, يعني فوضي غير بناءة بالمرة, يمكن أن تنتشر ملامحها بسهولة في عدد كبير من الدول الافريقية, وتضر بكثير من المصالح الأمريكية. وربما تنتقل تأثيراتها إلي الأسواق العالمية. ليس فقط لما سيتعرض له إنتاج النفط الحالي والواعد في السودان من مشاكل, لكن أيضا لأن السوق الافريقية أصبحت رهانا صاعدا في أجندة بعض القوي الدولية. وبدلا من أن يمضي أوباما في طريق التسويات السياسية, يواجه حزمة من المشكلات الأمنية. تكشف المعطيات السابقة عن نتيجتين أساسيتين. الأولي, غلبة تيار دعم الانفصال, محليا ودوليا, كأمر واقع. وتعتقد بعض الدوائر الاقليمية أن كبح جماح هذا الخيار بالوحدة الجذابة لا يحتاج إلي توجهات فردية تشجب وتدين وتضغط, لكنه بحاجة إلي إجراءات جماعية متعاونة ومتماسكة. والنتيجة الثانية, قيام الدول المعنية بهموم وشجون السودان بإعطاء أولوية للدفاع عن مصالحها الحيوية, من خلال تصورات واقعية والابتعاد عن المناطحات السياسية, أملا في تحجيم الخسائر المستقبلية.