بخلاف وظيفة الدولة ومهامها في توفير الأمن القومي, والاستقرار الداخلي, والسلام الاجتماعي, والرفاهية الاقتصادية, وفرص التوظف, وكرامة المواطن, وغيرها من أساسيات مهام الحكم, فإن هناك ما يجمع ذلك كله تحت مسمي مختصر هو: تحقيق الشعور بالسعادة للفرد والمجتمع. وهو موضوع أخذ يشغل في السنوات الأخيرة حيزا متزايدا من دراسات ومناقشات المختصين بعلم النفس السياسي, يشاركهم أساتذة علم السياسة, والاجتماع, والفلسفة السياسية, بالإضافة إلي مراكز استطلاعات الرأي. ومن الأمور التي كانت قد استقرت زمنا طويلا, أن السعادة من أولي وظائف الدولة, وهو هدف اتفقت عليه مدارس الفكر السياسي في الغرب, وأولاه المفكرون العرب مايستحقه من اهتمام, ومنهم الفيلسوف الفارابي, الذي حدد الهدف العام للدولة, بأنه عادة تحقيق شعور يسمي السعادة. وحيث إن الدولة أساسا هي تجمع يربط الناس ببعضهم حكاما ومحكومين, علي أساس قاعدة أخلاقية تمثل فلسفتهم فيما هو خير لهم ولمجتمعهم, وبما يشيع بينهم شعورا مشتركا بالسعادة. وأظهرت استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة, والتي راحت ترصد بلوغ المجتمعات هذا الهدف, أن دولا غنية ومتقدمة, قد تأتي في مركز متأخر علي سلم ترتيب المجتمعات الأكثر شعورا بالسعادة. وهو ما جعل هذه النتيجة تدفع المختصين والمهتمين, لأن ينشغلوا بالسؤال القائل: لماذا يشعر الكثيرون منا هذه الأيام, أنهم غير سعداء, وأحيانا مكتئبون؟! وهذا السؤال قاد بالتالي إلي قيام جامعات ومعاهد ومراكز مختصة بدراسات التوجهات النفسية في المجتمع, بإجراء دراسات تحاول أن تبحث عن إجابة لهذا السؤال: هل توجد شعوب يمكن أن نطلق عليها بشكل عام أنها شعوب سعيدة, وأخري شعوب تعيسة؟ وكان من اللافت للنظر تلك الدراسات التي شارك فيها العديد من المراكز, والتي نقلها الكاتب الأمريكي المعروف نيكولاس كريستوف, والتي رصدت درجات الشعور بالسعادة, في148 دولة في أنحاء العالم. وكانت النتيجة أن دولة كوستاريكا الصغيرة في أمريكا الوسطي احتلت المركز الأول, بينما الأخيرة كانت زيمبابوي في إفريقيا. وجاءت الولاياتالمتحدة في المركز العشرين. ولاحظت هذه الدراسات أن حالة الرفاهية الاجتماعية, والشعور بالسعادة, لم تكن من صنع المصادفة, وإنما لها مفاتيح بدأت( في نموذج كوستاريكا) بالتعليم والتعامل معه باعتباره المشروع القومي, وخصصت له اكبر نصيب في الميزانية, وتعاقبت النتائج بعد ذلك, من ارتقاء جودة التعليم, إلي مجتمع ينعم بالاستقرار, وارتفاع كفاءة أداء المواطن, والتنمية البشرية, وتحسين الرعاية الصحية, وتفوق الأداء الاداري والانتاجي, وازدهار الانتاج والتصدير, ونقاء البيئة, مما حولها إلي مركز جذب سياحي. معظم الدراسات خاضت في مجالات تحديد الأسباب التي تقف وراء الشعور بالسعادة أو التعاسة, مع الأخذ في الاعتبار ظروف كل مجتمع تاريخيا وثقافيا لكنها وضعت أمامها عناصر مشتركة ترتفع معها درجات الشعور بالسعادة أو تتقلص, منها: الممارسة الديمقراطية, ودرجة مشاركة المواطن في القرار السياسي, ومراعاة رغباته العامة, والقدرة الاقتصادية للدولة, ونجاح الحكم في اقناع الجماهير بسياساته, وتوفر العدالة. ولهذا كانت كثير من الدول المتقدمة تهتم بقياس اتجاهات الرأي العام, بصفة مستمرة, لتعرف مدي الرضا العام عن أدائها. وهي تفعل ذلك لاقتناعها بأن التواصل مع المجتمع, يأتي علي قمة أسباب نجاحها في تنفيذ أهدافها وسياساتها, في عصر ثورة المعلومات, الذي صنع وجودا وموقفا للمشاركة المجتمعية, كأمر واقع. بحيث أن تجاهل التواصل مع المجتمع في هذا العصر كفيل بإحداث الانفصال بين الاثنين. ولم تغفل هذه الدراسات, التوقف أمام البواعث الفردية للمواطن, في مواجهته التحديات التي يتعرض لها في حياته, وتناول حالات الاحباط الناشيء عن صدمات شخصية واجتماعية, كإهدار الكرامة, والشعور بالعجز عن شغل المكانة التي تؤهله لها مقومات شخصيته, أو فشل تجربة عاطفية, أو فقدان شخص عزيز, أو الصدمات التي تحدثها أسباب عامة, ومنها فقدان الحلم القومي, وعدم توحد المجتمع حول قضية مشتركة. وكانت دراسة لجامعة كاليفورنيا في العام الماضي, قد وجدت أن السعادة والتعاسة, يمكن أن يكون لهما خاصية العدوي, لو طال زمانها واستعصت علي العلاج. عندئذ ينتقل هذا الشعور من دائرة مجتمعية أصغر, إلي الدائرة الأوسع, وتعم المجتمع, وتصبح تعبيرا عما يطلق عليه شعوب سعيدة, وشعوب تعيسة. أن ما خلصت إليه هذه الدراسات علي تعددها وتنوعها, هو التنبيه إلي مأزق الانفصال بين نظام الدولة والمجتمع, في حالة فقدانها القدرة علي حشد الجماهير وراء أهدافها, وبقاء الجماهير خارج دوران عجلة أداء الدولة, بسبب ضعف وتهافت مستوي الرضا العام, وهو ما يوجد تجمعين, لا يجمع بينهما سوي الوجود في محيط جغرافي واحد, لكن أحدهما يمشي في مسار, والآخر يمضي في مسار آخر.